صحيحٌ أنَّ الجيش الإسرائيلي قوي ولديه الكثير من الإمكانات، ولكنه جيشٌ"هش" ويمكن كسره وقهره وهزيمة إسرائيل بسهولة، على العكس من التّصور السائد والصورة الإعلامية التي تبثُّها إسرائيل في كونها تملك جيشاً لا يُهزم. فالأحداث الأخيرة غيّرت الصّورة الذهنية واظهرت حقيقة الجيش الاسرائيلي، وبيّنت أنّ المقاومة الفلسطينية تملك صلابةً وقدرةً على التضحية والصمود، بل وأنّها تزداد متانةً كلما تعرّضت لمزيدٍ من الضغوط.
إذن حقيقة الجيش الاسرائيلي انه ليس "Antifragile" أي ضد الكسر، بل هو "Fragile" وَ"هش"؛ على الرّغم من الجهد الكبير الذي تبذُله الماكينة الإعلامية في سبيل إبقاء الهالة الكبيرة التي رُسمت حوله. فإذ يظنُّ عامة الناس أنّ الجيش الإسرائيلي لا يُقهر؛ تُدرك المقاومة - من خلال خبرتها في التعامل مع العدو - نقاط ضعف جيش الاحتلال، وكانت على يقينٍ كبيرٍ بالنصر رغم ضآلة الآلات والمعدات التي تملكها.
تتميّز المقاومة بمتانتها، بسبب قدرتها على الابتكار واستشراف المستقبل واستعدادها للتّضحية، ما يعني أنَّ هناك فرقاً بين "القوة" وبين "المتانة"، القوّة وحدها لاتكفي، والمتانة ضروريّة. فقد تكون الدّولة قوية في جوانب معيّنة، ولكنها هشّة وغير متينة ما يعرّضها لخطر الفشل والزّوال في كثير من الأحيان. وهذا ينطبق على الأفراد والمؤسسات أيضاً. فهناك مؤسّسات عملاقة، ولكنها مثل "أخيل"؛ قابلة للفشل والخسارة والزوال تماماً، ربّما بسبب نقطة ضعف واحدة لم تتوقّعها. وقد حدث هذا لدول ومؤسّسات كبرى، مثل الاتحاد السوفييتي الذي تفكّك رغم قوّته الهائلة، ومثل شركات "نوكيا" و"كوداك" و"إنرون" وغيرها.
اكتسبت "المقاومة" المتانة والرشاقة نتيجة تعرّضها لكثيرٍ من الصّدمات والتّقلبات والضّغوط والمخاطر، ودخولها في سلسلةٍ متّصلة من المغامرات، مع استعدادها للتضحية وتحمُّل تبعاتها وتكاليفها.
وهذه هي نظرية "نسيم نيكولا طالب" الذي يرى أنّ كل من يتعرّض للضّغوط ويتكيّف، يصبح أقوى ويكون ”مضاداً للهشاشة“. فما هو متين يبلغ أعلى مستويات المرونة وهي "الرشاقة"، لأن المرن يستوعب الصّدمات ويبقى كما هو، أما المتين والرشيق فهو يُقابل الصّدمات بردِّ فعلٍ إيجابي، ويصبح أقوى ويستعدُّ لمزيدٍ من التّكيف. ويُعدّ امتلاك هذه الصّفة هو السّبب الرئيس لتغيُّر أي شيء بمرور الوقت: بدءاً بالتّطور، والحضارة، والفكر، والنُّظم السياسية، والتّطور التّقني، والنّجاح في مختلف الجوانب الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، بالإضافة إلى صمود المؤسسات، ونهضة المدن، والحضارات، وتطوّر القوانين، وصولاً إلى بقاء الجنس البشري على كوكب الأرض.
وكلُّ ما هو متين يعشق العشوائية وعدم اليقين، ويقبل ارتكاب بعض الأخطاء.فالمتانة تجعلنا نُقدِم على المجهول، لنتعامل مع أشياء قد لا نفهمها جيداً، والمثير للدهشة أننا كثيراً ما ننجح في هذا. حتى ليبدو الغباء مع المتانة أفضل من الذّكاء مع الهشاشة.
القوة وحدها لا تكفي للمجابهة، وهذا ما حدث مع الجيش الإسرائيلي القوي الذي رأت قيادته أنّ القوة التّكنولوجية والفنيّة والعلميّة تكفي. فلو كانت المقاومة الفلسطينية بالغة القوة وتملك أسلحة متنوّعة وفتّاكة مثل جيش العدو، لمالت للخوف من المجابهة خشية أن تتحطّم قدراتها، ولما امتلكت قوة نفسيّة وذاتيّة تجعلها لا تخشى المواجهة، فالمتين يتصرّف بطريقةٍ تتوافق مع الحياة والبيئة، ولا يميل للتّخاذل وضعف الابتكار وعدم التأهُّب.
نتعلّم من هذا أنّنا سنبقى دائماً بحاجة لآليّات تساعدنا، وتساعد المنظّمات لتكون "متينة" فتعمل على تجديد ذاتها واستغلال التّقلبات والصّدمات والضّغوط غير المتوقّعة، لا الهروب منها. وفي هذا يقول "نسيم طالب" "أنّ القابلين للكسر يجنحون إلى تجنّب ما لا يفهمون، لأنّ الناس فعلاً أعداء ما يجهلون". بينما نجد فئةً أخرى تُلقي بنفسها في اليمّ من دون معرفةٍ مسبقةٍ بالسباحة إيماناً منها بأنّ الصدمة هي خير معلِّم. أمّا الضّعفاء الذين يعانون من الهشاشة الذّاتية، فيحرصون على نظافة ملابسهم، وجدّية ملامحهم، ومطالعة الصُّحف وتحليل المتغيّرات، ويهتمُّون بالأخبار ويجلسون في وضعٍ مستقيمٍ في الطائرة، ويواظبون على حضور الاجتماعات. قد يبدو هذا الكلام جيداً، لكنّه ليس كذلك بالضرورة: فمن شأن سلوكيّات الانضباط المُطلَق أن تصيبهم بالاكتئاب والكثير من أمراض العصر. فهم يعتبرون كل ما هو "غير مرئي" أو "غير موجود"؛ "غير مفهوم". فيميلون إلى خلط غير المعروف بغير الموجود.
القابلون للكسر سواءً على الصّعيد الطّبي أو الاقتصادي، أو على صعيد التّخطيط يجعلونك تنخرط في تصرّفات وسياسات واضحة، لكنها قليلة الفائدة؛ لأن كلّ الناس، لا سيما العقلاء والمفرطون في الحذر منهم، يتّبعونها. بينما تحتاج المكاسب الحقيقية والكبيرة لمخاطرة عظيمة وغير مرئية، والتفكير بطرقٍ عكسية لكل ما هو مألوف ومعروف ومقبول منطقياً.