لا أعرف أول سور بناه الإنسان في التاريخ، وقد لا تكون هذه
المعرفة ضرورية، لأن الجدران التي يقيمها الإنسان ليست أصعب الحواجز القائمة في
هذا الكون. فهناك حواجز طبيعية مثل الأنهار والبحار والأودية والجبال، وهناك
موانع فيزيائية مثل الجاذبية والمسافات بين المجرات. وبما أن الحيوانات تبني
بيوتها في البر والبحر، فربما لم يكن الإنسان سباقًا إلى بناء الجدران، ولم يكن
بناؤه هو الأجمل.
الإنسان يبني أسواره؛ إما ليدافع عن دياره، وإما ليسجن أشراره أو أحراره.
فللجدران هدفان: إما أن تقام للحماية والرماية، أو تقام للمنع والقمع. ورغم
أن التاريخ يعيد نفسه كما يقال، فإننا لم نتعلم أن الأسوار التي نبنيها أمام
أعدائنا تحيط بنا مثلما تحيط بهم، وتحميهم كما تحمينا، وتصدهم كما تصدنا. ولم
نتعلم أن كل أسوار العالم فشلت في تحقيق غاياتها، وتحول معظمها إلى معالم
سياحية وجداريات تعلق عليها نداءات الحرية والمعلقات الشعرية.
كل أسوار العالم الإسمنتية سقطت، وسيتوالى سقوطها على مر الزمان. فالإنسان
الذي تخطى حاجز الصوت، واخترق الجاذبية، وتحدى القوانين الطبيعية التي استشعر
مظهرها وأدرك جوهرها، أسقط كل الجدران الغبية التي بناها في وجه حريته وفي طريق
سعادته.
بني سور "الصين" العظيم لصد غزوات جيوش الشمال عن "الصين" القديمة. وامتد
السور لآلاف الأميال ولم يحم من بنوه ولم يصد من هاجموه، حتى اضطر أحد أباطرة
"الصين" بعد اكتمال بنائه بمائتي عام إلى قيادة جيوشه بنفسه ليحارب الغزاة
وينتصر عليهم خلف السور، فكان الجنود أعظم من الجدران، وكانت معنوياتهم أعلى من
أبراجه.
وبنى حلف "وارسو" جدارًا حديديًا في "برلين" ليغلق منافذ الحرية ويمنع
الديموقراطية ويحرم الشرق من التفاعل مع الغرب، ولم يمض نصف قرن حتى انهار
الجدار، وصار رمزًا للوحدة، ومزارًا للسائحين، وذكرى للتاريخ.
وتعتبر "إسرائيل" الواجفة الخائفة، من أشهر بناة الجدران في العصر الحديث. فقد
أقامت خط "بارليف" شرق قناة السويس فلم يحمها سوى لبضع سنين تعد على أصابع
اليدين. فلا يبني الجدران ويؤمن بوجودها سوى الجبناء والأغبياء. ولهذا عمدت
إلى بناء جدار الفصل العنصري بطول 700 كلم وتكاليف نافت عن ملياري دولار لتقضم
10% من أراضي "فلسطين" وتنام وتحلم بأوهام الأمن والأمان. فقبلها بنى الرومان
قلاعهم وشيدوا حصونهم، فاستثمروا مواردهم في حماية أجسادهم، وأهملوا شعوبهم
واستهلكوا جيوشهم فيما لا ينفع الناس ولا يمكث في الأرض. فانهارت حضارتهم من
الداخل، ولم يبق منها سوى شواهد التاريخ.
ومثلما هناك جدران للعزل والفصل، هناك جدران للوصل. فقد استخدمت جدران وحواجز
شارع "محمد محمود" في "القاهرة" لرسم الجداريات وكتابة التعليقات، فاختلطت
جدران الإسمنت والحجر بجدران "الفيسبوك" وتحولت من أسوار إلى ساحات للحوار.
وبهذا يثبت الإنسان جدارته في بناء الأسوار واختراقها، وفي تلوين الجدران
وتجميلها، وفي وضع العقبات وتغيير معانيها، لتبقى العوائق الطبيعية والحواجز
والأسوار الخارجية شواهد على قدراته وطاقاته وإبداعاته.
ما يحول بينك وبين تحقيق أهدافك، وما يمنعك من القفز عن الأسوار، ليس ما يزرعه
الآخرون في طريقك من أشواك، وما يمده العالم أمامك من أسلاك، بل ما تتوهمه
وترميه أنت في طريقك من أحجار وما تقيمه في داخلك من أسوار. فالجدار الوحيد
الذي يصعب تخطيه، هو الذي في داخلك تبنيه.