أعدادك المجانية

الرئيسية / المقالات

الفيل فوق الشجرة

بقلم : نسيم الصمادي 2019-11-27

من ذكرياتي أيام الطفولة، أي منذ أكثر من نصف قرن، كنا نعيش في قرية جبلية نائية وبعيدة عن مظاهر الحياة الحديثة، ومع أول هطول للأمطار في مطلع الشتاء كان الرجال يخرجون لصيد الأرانب وحيوان بَرَّي آخر نسميه "العُكِّس". لم نكن ندرك سبب اختيار هذا التوقيت، حتى واتتني الجرأة يوماً وسألت أحد أشهر الصيادين وهو عمي "حمدان"، عن سر الخروج بعد هطول المطر. عرفت يومها أن الأرانب والعَكَاكِس تخرج من أوكارها بعد امتلاء الأوكار بالمطر.
 في سن المراهقة بدأنا نخرج في محاولات للصيد، ونهيمُ في الجبال جماعاتٍ وأفراداً، ولاحظتُ أن الأرانب تحديداً تقف دائماً على أعلى صخرة يمكنها تسلُّقها وتنفض شعرها ليجف. وبسبب سمعها المُرهف وعدم تذرُّعنا بالصبر لم نكن نحسن صيدها كما يفعل العم "حمدان" ورفاقُه المحترفون. وبقي سر ارتقاء الأرانب أعالي الصخور سراً غامضاً حتى قرأت عام 2005 كتاب "تألَّق بنقاط قوتك" بمعنى استثمر نقاط قوتك للدكتور دونالد كليفتون رائد نظرية القيادة بنقاط القوة وأحد رواد علم النفس الإيجابي والرئيس السابق لمؤسسة جالوب. روى  كليفتون في كتاب استثمر نقاط قوتك  قصة الأرنب الذي أرسلوه إلى المدرسة، فأصرَّ مدرِّسوه على تعليمه السباحة لأنه سريع في الجري وضعيف في السباحة والألعاب المائية. وكأحد رواد مدرسة علم النفس الإيجابي، كان  كليفتون  وزميله مارتن سليجمان أول المنادين بأهمية تمتين نقاط القوة، بدلاً من تقوية نقاط الضعف. وما فهمته من قصة الأرنب والسلحفاة، وقصة الأرانب التي لا تجيد السباحة وتكره الماء، أن قبيلة الأرانب خُلِقت لتركضَ وتقفز فقط، وأن شعرها يلتصق بجلدها فتعاني الأمرين من البلل. أي إن ممارسة الأرنب للسباحة تأتي بنتائج عكسية عندما تبتل بالماء فيزيد الطين بله.
 ومرة أخرى عاودني التفكير بالمشكلات التي ستعانيها الأرانب كلما أطلَّ الشتاء، في عالم يلوِّثه الطين ومجتمعات تعوم في المياه الراكدة، وقبل أيام وصلتني رسالة نصية خصَّني بها الصديق الدكتور أحمد خليل. وفيها أعاد تفسير قصة الأرنب والسلحفاة التي حفظناها وكرَّرناها وكنا نظن أنها لا تعني أكثر من مثابرة السلاحف وتخاذل الأرانب. وقد نجح الدكتور والخبير الاستراتيجي أحمد خليل في تلخيص كل الدروس المستقاة من حكاية الأرنب والسلحفاة في مقال مطول نشرناه ضمن المقالات المجانية على منصة وتطبق Edara.com بعنوان: قراءة جديدة ودروس مفيدة من حكاية الأرنب والسلحفاة – بقلم الدكتور أحمد خليل خير الله خلاصة القول أو ملخص القول أن قصص الأرانب والضعفاء، وما تحويه من دروس وعبر، جعلتني أفكر بكتابة مقال فيل فوق الشجرة يشبه أبي فوق الشجرة أو فيلم عبدالحليم حافظ عندما يكون الإنسان في المكان الخطأ في التوقيت الخطأ. بسبب كاريكاتير آينشتاين فهمت معنى أين يكون الفيل فوق الشجرة. معنى مقولة آينشتاين هو أن "كل إنسان عبقري، ولكن إذا قيَّمت أداء السمكة بقدرتها على تسلق شجرة، فسوف تعيش طوال حياتها وهي تؤمن بغبائها". الكاريكاتير الشهير يعرضُ صورة مدير موارد بشرية أو خبير و مستشار توظيف يُجري مقابلة توظيف لـ: عصفور وقرد وبَطريق وفيل وسمكة وكلب، ويقول:  من أجل العدالة، سنخضع الجميع لنفس الاختبار؛ وطلب من الجميع أن يتسلقوا الشجرة. ولكم أن تتخيلوا معنى أن يكون الفيل فوق الشجرة !
 من البديهي أن يفوز العصفور طبعاً، يليه القرد، ثم الكلب، وربما البطريق، وأن يُحجِم الفيل والسمكة عن خوض السباق. هكذا يقول المنطق وفقاً لمعرفتنا وتوقعاتنا ونظرتنا المتشابهة إلى الأمور، ولأننا في زمن العلم الذي يُلغي البديهيات يمكننا أن نحمل الفيل بمنطاد ونضع الفيل فوق الشجرة ونطلب منه أن ينام فوقها، ومعنى أن ينام فيل فوق الشجرة هو ألا يعمل ولا ينتج أبداً. ولكن ما سيؤكد أو ينفي الافتراضات السابقة بشأن صعود الفيل فوق الشجرة، إدراكنا أن  المستحيل هو الحاجز الذي نبنيه أمام عقولنا وخيالنا. ولهذا أردت أن أتأكد من أن السمكة ستحتل المركز الأخير في سباق تسلق الشجرة، كما افترض آينشتاين في قديم الزمان، إن كان آينشتاين فعلاً هو صاحب تلك المقولة.
 بعد بحثٍ لم يَطُل، وجدت مقالاً منشوراً في منصة علمية عالمية بعنوان: ثلاثة أنواع من الأسماك تستطيع تسلق الأشجار. الأنواع الثلاثة هي: مانجروفكيليفش، وكلايمبنججورامي، وكلايمبنجكاتفش. الأنواع الثلاثة تعيش في المياه العذبة حيث تعيش الأشجار، لأن الكائن الحي هو ابن بيئته وتنشئته وتربيته وعاداته. المثير في هذا الاكتشاف أن بعض تلك الأسماك لا تتسلَّق الأشجار فقط، بل وتسكن بين أغصانها لأيام وأسابيع بعد أن تكيَّفت وتشكَّلت خياشيمُها لتأتيها بالأكسجين. وهذا يعني ببساطة أن يكون فيل فوق الشجرة هو المستحيل بعينه مقارنة بتفقيس الأسماك غريبة النوع تلك بيضها فوق الشجرة.
 أما نحن بنو البشر، فإننا نعمل كالأرانب لا كالحيتان؛ نربي أولادنا وأحفادنا، ونعلِّم طلابنا ونُعَيِّن وندَرِّب موظفينا وكأننا نحمل الفيل ونضعه فوق الشجرة. إذا اكتشفت أن أبناءك أرانب، فأنت من علَّمهم النوم في منتصف الطريق، والبحث عن الدفء والراحة كلما هبَّت العواصف. لم تعلِّمهم أن يثابروا كالسلاحف، أو يتنفسوا مثل سمك المانجروف، وأن يُحلِّقوا كالعصافير، ويقفزوا مثل القرود، ويمدوا خراطيمَهم إلى أبعد مدى مثل الفيلة التي تطول قمم الأشجار دون أن تتسلقها. أنت فيل فوق الشجرة عندما تعمل عن بُعد، فتطال بخرطومك الرقمي و أدواتك الإلكترونية كل ما يحدث في المكتب دون أن تذهب إليه.
 في سباق تسلق الشجرة، وفي كل سباق تأكَّدنا أن الفيل سيفوز دائماً فنرى فيل فوق الشجرة، وذلك استناداً إلى الأنظمة الداخلية والخارجية، ولوائح الاختيار والتعيين. فسواء طبَّقنا الحوكمة، أو استبدلنا شريعة الغاب بتشريعات الأمم المتحدة، فقليلاً ما تفوز المواهب الذكية والإمكانات الكامنة كما في كتاب آدم جرانت Hidden Potential. من المفروض وليس من الممكن أن يكون الفوز من نصيب من يمد خرطومه طويلاً، ويقتلع الشجرة، فتطير العصافير وتسقطُ الزواحف، ليجلس فيل ضخم على أكبر كرسي فوق الشجرة ويصبح فيل فوق الشجرة هو شعار المرحلة. على قمة كل هرم تنظيمي ومنظمة عامة وخاصة، يتربَّع فيل كبير. وحتى في العصر الرقمي والعالم الافتراضي، يتشكَّل الفيل تدريجياً، ثم يكبر بسرعة، فنحترمه ونبجِّله ونجلسه في مكانه الخطأ دائماً ليبقى الفيل فوق الشجرة.
تعبير فيل فوق شجرة هو تعبير مجازي عن أي شيء غير مألوف أو غير منطقي، يعني حدوث ما لا يمكن حدوثه. وهو يشبه تعبير نسيم نيكولاس طالب في كتابه الشهير البجعة السوداء، أي حدوث ما لم يكن له أن يحدث – راجع - مقال البجعة السوداء ومقال البجعة السوداء تأثير اللامحتمل وشبه المستحيل – مجلة المختار الإداري – العدد 64 عام 2007
إذا أعجبك المقال، وتريد المزيد اقرأ ملخصات الكتب pdf او اسمع الحلقات الصوتية Audio Book وكذلك المقالات التالية:
أعد التفكير القوة الكامنة في معرفة ما لا نعرف – آدم جرانت Think Again pdf
الأصليون – آدم جرانت Originals Adm Grant pdf
مقال نسيم الصمادي كرسي الموظف أم موظف الكرسي ؟
 

بقلم : نسيم الصمادي