أعدادك المجانية

الرئيسية / المقالات

ضع عقلك في جيبك، واتبعهم

بقلم : د/ ماجد الصمادي 2021-09-21

للأديب والروائي الإيطالي الراحل "أَمبرتو إيكو" مقولة شُجاعة وصَف فيها التفاهات التي تحيط بعالمنا من كل جانب، حيث يقول: "وسائل التواصل الاجتماعي مَنحت حقَّ الكلام للحمقى الذين كانوا  يُثرثرون في الحانات فقط، فلا يُلحقون ضرراً بالمجتمع، إذ كان يُسكتهم صاحبُ الحانة حين تعلو أصواتُهم. أما اليوم فإنهم يتكلمون وكأنهم من الحائزين على جائزة نوبل، إنه فعلاً زمن الحمقى".
حققت وسائلُ التواصل الاجتماعي عدالةً نسبيةً في توصيل صوت المُهمشين، لكنها أسهمت أيضاً في نشر ثقافة الكراهية بين الأفراد وفي المجتمعات، وساهمت في تسطيح قضايا كبرى حذَّر عُلماءُ وفلاسفة من تداولها بين "العامة" وتمييعها، ووأد أي حوار منهجي يبحث عن حلول لقضايا العالم الجوهرية.
ومنذ سبعة قرون أكد "ميكافيلي" الإيطالي أيضاً، وصاحب كتاب "الأمير" أنَّه يمكن للعقلاء فقط توقُع الكوارث قبل وقوعها، فإن أدّى الافتقار للمعرفة إلى استفحالها وتشخيصها من قبل العامة، فسيتعذّر علاجُها. وهذا ما نراه اليوم، حيث تتحول القضايا الكبرى من موضوعات تحتاج لتفكيك وبحث وسجال فكري، للتحقق من منطقها وأساسها المعرفي، وقدرتها على الوفاء بمتطلبات المجتمع، فنراها تتحول إلى شتائم تقودنا إلى مآسي وخراب في كافة المجالات.
وللثقافة العربية والإسلامية موقفٌ معرفي من "العامة" إذ وصفهم القاموس العربي بالدهماء والغوغاء. ولابن إسحق كتاب بعنوان "مساوئ العوام وأخبار السفلة والأغتام" ونشر الإمام الغزالي قبل موته كتاب "إلجام العوام عن علم الكلام" ليختم به إنتاجه المعرفي.
لا عتَبَ على الذين غيَّروا أماكنهم وانتقلوا من الحانة إلى المَنصَّات. العتب على النُخب التي انقسمت الى فئتين؛ فئة عزَفت وتمَنَّعت عن الحضور الإيجابي على المنصَّات، وغابت عن الواقع الافتراضي، إما لنظرة دونية، أو جهلاً بما يدور حولها. وفئة أخطر، تماهت مع من يُلوثون أسماعَنا وأبصارنا، فتطَّوع مثقفوها الذين هانت عليهم عقولُهم بحثاً عن الشعبوية، فعملوا كمراسلين ينشرون ثرثرتهم بالمجان، وها هم ينافسون الحمقى ويبررون سوء أعمالهم بحجة مُجاراة الواقع.
وحتى لا يُساء الفهم، فما نعنيه بالنخبة ليس مفهوماً طبقياً ولا ينحصرُ بمستوى تعليمي معين، فقد وصفَ "الكواكبي" النخبةَ" بأنهم الأخوة الناصحون للمجتمع." وعَّبْر التاريخ، ظهرت نخبٌ من غير المتعلمين، قادت الرأي العام ووجَّهته وحققت إنجازات اقتصادية وعلمية وحضارية، ودافعت عن القيم الإنسانية النبيلة، وكبحَتعدمية الغوغاء،في سبيل تحقيق رفاهية المجتمع ضمن أطُرٍ أخلاقية وجمالية.
فيا أيها النُخبوي التنويري الناصح للمجتمع؛ إذ كان لنا أن نتجاوزَ أحوالَنا الصعبة، ونُنجزَ إصلاحاً ثقافياً واجتماعياً وسياسياً واقتصادياً حقيقياً، فعليك أن تَكبح الرؤية العدمية، وتُلجم الشعبوية التي تطبع الكثير من النقاشات والأفكار المتفشية في الفضاء العام. فالأزمة أزمة مجتمع، وأزمة أمة فقدت بصيرتها وخسرت معركة التحديث. وإلا فالبديل السهل والمريح: "ضع عقلك في جيبك، واتبعهم".

بقلم : د/ ماجد الصمادي