قبل أسبوع، سمعت أبنائي يتحدَّثون عن لاعب كرة قدم أمريكية اسمه "توم بريدي" سيلعب نهائي "السوبر بول" للمرة العاشرة، فإن فاز مع فريقه يوم 7 فبراير الجاري، يكون قد فاز سبع مرات على مدى عشرين عاماً. "بريدي" هذا في الثالثة والأربعين من العمر وما زال يلعب، وهذه مصادفة ذكية! وحتى بفوزه السادس (السابق) يكون قد حطَّم كل الأرقام القياسية، ليس مقارنةً باللاعبين، بل وبالأندية أيضاً، وهذه ليست معجزة كما نظن.
ويوم أمس، أخبرني ابني بأن "محمد صلاح" لاعب "ليفربول" يحتلُّ قائمة هدافي الدوري الإنجليزي من جديد، وأنه سجَّل هدفاً إعجازياً في مرمى "ويست هام" بسبب مهارته في استلام الكرة، والطريقة الغريبة -غير المتوقَّعة- التي صادف فيها المرمى. "صلاح" ليس اللاعب الأقوى ولا الأطول ولا الأسرع في الدوري الإنجليزي، ولكنَّ هناك سراً كامناً في شخصيته جعله يُسجل أرقاماً غير متوقَّعه تقارب بينه وبين أساطير اللعبة مثل "ميسي" و"رونالدو".
فما السر؟ وكيف نصفه ونفسِّره؟
توصَّلت إلى نظرية أظنُّها جديدة في الأداء البشري سأسميها "المصادفة الذكية"، ففي عام 1990 وقبل تأسيس "إدارة.كوم" بعامين، انتدبتني شركتي السعودية لتمثيلها في مؤتمر الجودة في أمريكا. سافرت مصادفةً بعد اعتذار مديري؛ الرئيس التنفيذي الذي أنابني عنه بشرط أن أعود وألخِّص أعمال المؤتمر لمجلس الإدارة والفريق التنفيذي، وهذا ما كان! عَرَّجتُ قبل سفري بساعات على مكتب الرئيس لأرى على مكتبه مُلخَّصاً لكتاب "زمن اللامعقول" لـ"تشارلز هاندي". في الاستراحة الأولى من يوم المؤتمر الأول، دخلت صالة العرض لأصادف شركة أمريكية تلخِّص أفضل الكتب العالمية. اشتريت اشتراكاً في مُلخَّصات "ساوند-فيو" لأفاجأ بملخص كتاب "هاندي" كأول عدد في ملف الاشتراك. سجَّلت اشتراكاً ثانياً أهديت مديري إياه، وعُدت من رحلة صيد الأفكار لأبادر بتأسيس أول شركة عربية، وثاني شركة عالمية تلخِّص الكتب التي تستحق القراءة، ومنذ عام 1992 وحتى اليوم، قرأت ولخَّصت أكثر من 3000 كتاب، و7000 مقال، ولم يكن لهذه التجربة أن تستمر لولا الخلطة السرية للدور الذي تلعبه المصادفات الذكية في تحطيم الأرقام القياسية.
السؤال المطروح هو: ما عناصر ومكونات المصادفات الذكية؟ للأسف ليست هناك إجابة عامة للعامة، ولا حتى إجابة خاصة للخاصة! كل ما هناك هو بعض الإجابات الخاصة، لبعض الخاصة! وعذراً على هذه الفلسفة الخاصة.
ما الذي جعل "عباس بن فرناس" يطير و"نيوتن" يكتشف الجاذبية و"آينشتاين" يُعرِّف النسبية و"ابن خلدون" يُفسِّر التفاعلات المجتمعية و"محمد بن راشد" يبني دبي و"إلون ماسك" يُرسل صاروخاً إلى الفضاء ويُعَلِّم "ناسا" كيف تعمل؟
تحتاج إجابات كل هذه الطروحات إلى أبحاث ورسائل دكتوراه وبرامج وتطبيقات تفهم أسرار الأداء البشري وتسبر أغوار الشخصية، بل وتحتاج إلى أكاديمية متخصصة في صنع المصادفات الذكية!
من المؤكد أن المصادفات الذكية شرط أساسي لتحطيم أي رقم قياسي، وأن مزيج وعناصر ذكاء الصدفة تتنوَّع وتحتاج إلى خلطات وأمزجة تختلف من شخص إلى آخر، وهذه الخلطات ليست الرؤية، والرؤية جزء منها، وليست التدريب، والتدريب من أهمها، وليست التعليم، فبعض المتعلمين أغبياء، وليست الشجاعة، فبعض الأبطال جبناء.
العناصر السالفة كلها مطلوبة، إلا إنها جزئية لا حصرية؛ ويمكن أن نضيف إليها: الوعي بالذات والآخر، والسياق البيئي (الزمان والمكان)، والفضول، والانضباط، والعزيمة، والمرونة، والتجريب، والمخاطرة، والاتساق، والخوف من الخوف (الحذر)، والتفكير، والحب، وخيطاً رفيعاً من الجنون، بالإضافة إلى عشرين أو ثلاثين سمة أخرى.
هل صادفت حظاً عابراً -لا عاثراً- يوماً ما، وقرأته بذكاء