أعدادك المجانية

الرئيسية / المقالات

"أنا" و "مريم" والنظر من زاوية مستجدة بميل 20 درجة

بقلم : نسيم الصمادي 2020-06-17

في صغرنا وخلال سني المدرسة الأولى، كان أباؤنا ومعلمونا يمسكوننا من آذاننا ليشدوها ويفركوها. وكنا ندرك أن "فركة الأذن" هي نوع من التحذير والتنبيه اللطيف، مقارنة بلسعات الكفوف وخبطات العِصِّي. كنا نعاني من الألم لبضع دقائق، ونتذكر رسالة التنبيه لبضعة أيام، ثم نعود إلى ارتكاب نفس الأخطاء التي أحلَّت عقابنا.
 
أكتب هذا المقال والكمامة معلقة بأذني وقد نسيت وضعها جانباً، رغم وجودي في المكتب وحيداً لأكثر من أربع ساعات. وقد نبهني الألم والشَّد الخفيف خلفَ الأذن إلى الدروس التي يمكننا تَعلُمها في عام 2020، وهو عام "شد الآذان" بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ.
 
علَّقت الكمامة فوق رأس الفيل الخشبي الذي يتوسط مكتبي، وتنبهت إلى أصوات بنات يلعبن على سطح العمارة المجاورة للمكتب. ناديت "مريم" ذات الأعوام الستة وحذرتُها من الاقتراب مع أختيها من حافة الجدار الذي يعلو عن الأرض عشرة أدوار. حتى شهور قليلة خلَت، كنت أعمل من مكتب قديم في الطابق الخامس للعمارة التي تلعب على سطحها "مريم"، لأن والدها هو حارس العمارة. كانت "مريم" تلعب مع أختيها في الشمس، وأنا أقبع في الظل أراقب الابتكارات الطفولية العجيبة التي أبدَعَتها لتمارسَ الرياضة وكأنها رئيس تنفيذي لمؤسسة كبرى. تناولت الهاتف وصورت "مريم" وأختها الوسطى وهما تتبادلان الصعود إلى اللوح الخشبي الطويل الممتد بزاوية ميل تقل أو تزيد قليلاً عن 20 درجة. من الواضح أن البنات صممن جهازاً للمشي يمثل أرخص جهاز سير متحرك "تريدميل" في العالم. ابتسمتُ وعدت إلى العمل، وقبل أن أشرع في الكتابة، مددت يدي في درج المكتب، وابتلعتُ حبة فيتامين "د" لزيادة المناعة وتعويض حرماني من الشمس.
 
أعادتني الكمامة وألعاب "مريم" وأخواتها إلى الماضي، لأستعيد ذكريات وألعاب الطفولة التي شكَّلت حياتَنا. من الواضح أن "مريم" اعتادت اللعب في الشمس بعيداً عن الأنظار، لأن المغامرة على حافة الخطر وتنفيذ الأفكار واستثمار شمس النهار، والتجريب والابتكار، ما زالت - رغم "كورونا" - ممارسات فطرية تعكس مفهوم الصغار عن الحرية. ولذا رُحت أفكر في الأسباب التي تمنعنا من الصعود إلى الأسطح ومواجهة الشمس التي ستغنينا عن فيتامين "د". لكن الخروج من الحجر الصحي، وهو غير صحي، ما زال يُذكرنا بالكمامات التي تشد آذان من يظنون أنفسهم كباراً بعدما تراخت أيدي الآباء والمعلمين.
 
من ناحية الأثر الاقتصادي والسياسي فقط، ومن دون النظر إلى التأثير النفسي والصحي وزاوية الميل والانحراف الأخلاقي، يُعد "كوفيد-19" من أكبر عوامل التغيير في تاريخ البشرية الطويل. لقد تغير في حياتنا كل شيء، ومن لم ينتبه لما انتابه من تغيير في العادات والتصرفات، لم يفق من صدمته بعد. ما زالت الأيام تركض والناس يموتون، وفيروس "كورونا" يقفز من "ووهان" إلى "بيجين"، ونحن في حالة ذهول وانتظار لما سيأتي. استعدنا قدرتنا على الصبر، وبدأنا نستعيد بعض قوتنا وما ورثناه من طفولتنا. ألغينا الوجبات الجاهزة والحلول الجاهزة، وأيقنا أن قهوة "ستاربكس" ليست حاجة غريزية، وأن أزيز آلة الحلاقة في أيدينا لا يختلف عن ماكينة الحلَّاق. معظم ما كنا نملكه من ملابس "براندات" نسيناه في الخزائن، ثم نسينا الخزائن أيضاً.
ولأن التخلص من العادات القديمة يحتاج إلى عادات جديدة تسد فراغنا النفسي، فقد فتحنا الدفاتر القديمة، وتذكرنا ألبومات الصور والأغاني وعاد صوت "فيروز" يصدح ويملأ صباحاتنا من جديد. وفي غفلة من أنفسنا، استدعينا رغبتنا في استرجاع حريتنا. استعدنا مرحلة الاستقلال الشخصي والاعتماد على الذات التي افتقدناها عندما صرنا مديرين ووظفنا أعداداً كبيرة من المساعدين. واليوم نعود إلى مواجهة الحياة والمواقف الصعبة والسهلة وحدنا: نسوق السيارة ونطبخ لأنفسنا. نسينا تذاكر السفر ونداءات المطارات وشد الأحزمة في الإقلاع والهبوط، وأسماء الفنادق واجتماعات العمل، وعدنا نتذكر مهاراتنا المُلغاة؛ فنعيد ترتيب أولوياتنا، ونحفظ أرقام الاستعلامات لنسأل عن موعد الحظر اليومي، ونشتري علب الكمامات المُجنَّحة، وعلبة أقراص "ستربسلز" مع كل علبة فيتامين د، وعلبة"بنادول".
 
أجلس وحولي ما لا يقل عن ثلاثة آلاف كتاب أنتجت بعضَها عقولٌ فكرت، ووعَظَت، ورحلَت، وأنتجت بعضها الآخر عقول ما زالت تفكر، وتتفلسف، وتجترح حلولاً، ينجح أقلها ويفشل جُّلُها. حتى شهور خلت، كنت أحارب الملل بالقراءة وإعادة تصنيف الكتب وترتيب ما تشابه منها بعضها إلى جوار بعض. لكن الكتب صارت متشابهة شكلاً ومضموناً، حتى أغلفتها تشابهت بعيداً عن ضوء الشمس. كل هذه الكتب لم تنبهنا ولم تعكس حقيقة أنفسنا. لقد ثبت الغباء المطلق للإسرائيلي "يوفال هراري" حين ادعى في كتابه (سادة الكون: تاريخ موجز للغد) أن الإنسان هو الله، ليقنعه مستر "كوفيد19" أنه حتى لم يبلغ مرتبة إنسان. كنا طوال حياتنا بحاجة إلى كمامات تشد آذاننا، لنسترق السمع لأصوات العقول والقلوب. وها هو صوت "مريم" وأخواتها على السطح المجاور، يضحكن ويتزحلقن على اللوح الخشبي المائل بزاوية 20 درجة، باتجاه الشمس، وباتجاه الحياة!

بقلم : نسيم الصمادي