أرى في إفلاس جنرال إلكتريك وتوماس كوك وتغوُّل "دونالد ترامب"؛ مؤشراً واضحاً على قرب دمار العالم، وليس إفلاسه فقط، كما قال "طلال أبوغزالة"، فمن يحكمون عالم اليوم، هم ثُلَّة من المعتوهين الذين لا يأبهون إلا بمناصبهم وحسابات أعمالهم. لا تعنيهم البيئة في شيء، ولا يعتبرون الحروب التجارية والعسكرية والقيادات الشيفونية والدكتاتورية، خطراً ساحقاً.
في عام 2007، ومع نهاية حقبة الرئيس الأسبق "جورج بوش" الابن، نشر "لي أياكوكا" - وهو إلى جانب "جاك وولش" أعظم مدير تنفيذي عرفه العصر الحديث- كتاباً بعنوان: "أين ذهب كل هؤلاء القادة؟"، وكأنه كان يستشعر خطر قدوم قادة معتوهين من أمثال: "ترامب" و"بوريس جونسون" و"ناريندرا مودي" و"رودريجو ديتورتي"، ناهيك عن عشاق السلطة في الدول العظمى مثل: "بوتين" و" شي جنبينغ".
عندما نشر "أياكوكا" كتابه الأخير كان في الثانية والثمانين، ورغم وطأة العمر صرخ قائلاً: "يجب أن نَصْرُخ حتى تتوقَّف هذه المذبحة، فلدينا عصابةُ من الحمقى والجهلة الذين يدفعون بسفينة البلاد إلى حافة الهاوية، وعصابة رجال الأعمال الذين يسرقوننا، وبدلاً من أن يحتجَّ الجميع، فإنهم يهزُّون رؤوسهم موافقين! لا شك في أن هؤلاء القادة ومن يحذون حذوهم يمزحون، فأمريكا ليست سفينة "تيتانيك" التي يمكن أن تغرق عندما ترتطم بأول جبل جليد، ولهذا خذوا مني هذا الحل الناجع: "دعونا نُلقِ بهؤلاء الأغبياء خارج الحكومة! ربما تعتقدون أنني مصاب بالخرف، فلا بد أن يصرخ أحد ما، فأنا لست متأكدًا أنني أعيش في أمريكا بعدما تجاهل رئيسها الدستور، وبدأ يتنصَّت على هواتفنا، ودفعنا إلى حرب تبدو بلا نهاية... ها هو الشرق الأوسط يحترق ولا أحد يعرف ماذا يجب أن يُفعَل، بل تكتفي الصحافة بالتطبيل ولعب دور فتيات الملاعب اللواتي يرقصن لمن يدفع أكثر".
عدت مؤخراً إلى قراءة كتاب "أياكوكا"، ثم عرَّجت على سيرته الذاتية ونحن نلخِّصها في سياق مشروع جديد لتلخيص كل الكتب الكلاسيكية التي صنعت فكر العالم الإداري في القرن العشرين، وكانت ملاحظاتي صادمة.
لاحظت أنه لا يمكن صُنع القادة وإعادة تخليقهم ولا استحضارهم. القادة كالخيول والأشجار والأسود والنسور، لا يختلف تهجينها عن تدجينها، إما أن تخرج من تُربتها الأصيلة، وتصهل وتزأر في براريها الواسعة، وتُحلِّق في آفاقها العالية، وإما أن تتزيَّا بأقنعة الشخصية السطحية وأخلاقها المصطنعة وسجاياها المفتعلة.
ومما أثار دهشتي وكرَّر صدمتي، ما لاحظته أيضاً من أن "بيتر دراكر" وهو أبلغ من فرَّق بين الإدارة والقيادة بقوله: "الإدارة هي أن تفعل أي شيء بطريقة صحيحة، والقيادة هي أن تفعل الشيء الصحيح بطريقة صحيحة"، مات عن 96 عاماً وترك إرثاً عظيماً في أدبيات الإدارة ونظرياتها متمثلة في تسعة وثلاثين كتاباً على امتداد سبعين عاماً، ولم يأتِ ذكر كلمة "قائد" أو "قيادة" في عنوان -ولو كتابٍ واحدٍ من كتبه- فما السبب يا ترى؟
في كتابه "ممارسة الإدارة" المنشور عام 1954، الذي اعتبرناه من أعمدة كلاسيكيات الإدارة وسننشر ملخَّصه قريباً، أكَّد "دراكر" أن أول وأفضل كتاب منهجي في القيادة، هو كتاب "زينوفون" صديق "سقراط" الذي وثَّق فيه السيرة الذاتية لـ"سايروس العظيم" الذي مارس الحوكمة الرشيدة وقاد جيوشه مستنداً إلى فطرته وحكمته، فأنقذ عشرة آلاف مقاتل من الهلاك في القرن السادس قبل الميلاد. لم يُطلِق "دراكر" على أيٍّ من كتبه عنوان "القيادة" لأنه ظل يرى أننا وبعد ما يقرب من 3000 عام من التنظير والتأليف في القيادة لم نُضِف لمبادئها وممارساتها شيئاً يذكر، فالقائد الذي لم يخلقه الله قائداً بالكاريزما والفطرة، لا يُمكن توليفه، ولا جدوى من تفكيكه وإعادة تركيبه، وهذا هو أحد أسباب انتقادي لكتاب "العادات السبع" لــ"ستيفن كوفي"، الذي أرى أن نظريته حول الفاعلية وتطوير القادة غير قابلة -على أرض الواقع- للتطبيق، وأن منهجية جالوب المرتكزة على نقاط القوة أفضل من منهجية "كوفي" بمراحل.
لكل ما سبق، ولأن بعض من يحكمون عالمنا اليوم لا يعرفون شيئاً من معاني التواضع، ولأنهم لم يقرؤوا "فن الحرب" لــ"صن تسو"، ولم يفهموا سوى كتاب "الأمير" لــ"ميكيافيللي"، أقول لـ"لي أياكوكا": "القادة لم يذهبوا، لأنهم لم يحضروا أصلاً! وعلينا أن نبحث عن طُرق جديدة تُغريهم بأن يعبِّروا عن أنفسهم!".