أعدادك المجانية

الرئيسية / المقالات

التميز في الإدارة والجودة يطيل العمر

بقلم : نسيم الصمادي 2019-09-12

سألني "الدكتور/ محمد القضاة" أن أكتب مقدمة لكتابه الجديد: "إدارة الجودة والتميز المؤسسي"، فتذكرت أول كتاب قرأته حول إدارة الجودة في عام 1990. قابلت في ذلك العام المهندس "جوزيف جوران" في شيكاغو على هامش مؤتمر (إمبرو التاسع) الذي نظمه معهد جوران للجودة، وكلمة (إمبرو) هي اختصار لكملة Improvement التي توحي بدور الجودة في التحسين المستمر.
 
في عام 1990 كان "جوران" في منتصف العقد التاسع من العمر، وأعلَن بالمؤتمر أنه يفكِّر في التقاعد بعد حياةٍ طويلةٍ وحافلةٍ قضى ردحاً طويلاً منها في اليابان، عندما سافر برفقة "إدواردز ديمنج" لمساعدة الحكومة اليابانية في تحسين جودة الصناعة والإدارة بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، لكنه لم يتقاعد، بل واصل رحلته في نشر الوعي بالجودة حول العالم، حتى مات عام 2008 عن مائة وأربعة أعوام، بينما عاش زميله "ديمنج" 93 عاماً.
 
من ملاحظاتي مؤخراً أن الخبراء العالميين وعظماء الإدارة يُعمَّرون طويلاً، لأنهم ينشغلون عن مشكلات العالم بمشكلات العلم، ويُطبِّقون فلسفة الجودة وثقافتَها وأنماطَ الحياة الصحية والصحيحة على حياتهم الخاصة. عاش "جوران" 104 أعوام، ومات "بيتر دراكر" عن 96 عاماً، وما زال فيلسوف الإدارة الإنجليزي "تشارلز هاندي" ينشر إنتاجه الفكري وهو على مشارف التسعين.
 
ومن ملاحظاتي الأخرى على تأثير التفكير والتأليف في فلسفة الإدارة وتطبيقاتها، أن عظماءها لا يتمتَّعون بقدرات إبداعية في تأصيل النظريات وتصميم الممارسات فقط، بل ويتميَّزون بغزارة الإنتاج أيضاً، فقد نشر "دراكر" 40 كتاباً ما زالت تُدرس في مختلف جامعات العالم، ونشر "هاندي" نحو 20 كتاباً، وترك كل من "ديمنج" و"جوران" عشرات الكتب والمصفوفات والنظريات والمعادلات والنماذج الإحصائية والأدلة العملية، حتى أن "جوران" اختار رسماً فرعونياً خالداً شعاراً لمعهده. لقد آمن هؤلاء بأن الجودة في إدارة المؤسسات يمكن أن تسري أيضاً على إدارة الذات، وأن الجودة ثقافة وأسلوب حياة، وليست مجرد نظريات ومصفوفات، ومن مقولاتي المعروفة أن: "الجودة ليس مجرد عادة. إنها عبادة".
 
في مؤتمر "إمبرو" المشار إليه، وزَّعَ معهد "جوران" كتاب: "دليل جوران إلى تصميم الجودة"، وكان يتمحور حول تخطيط جودة المنتجات والخدمات، ويعكس فلسفة "جوران" في تصميم الجودة، ويمكن تلخيص فكر "جوران" التأصيلي بأن تخطيط وتنفيذ وتحسين الجودة ليس مسؤولية المدير والإدارة فقط، بل هو جهد مشترك بين كل الإدارات والعمليات، داخل المؤسسة وخارجها، وذلك لأن عملية التخطيط تتكوَّن من عدة مستويات تشمل: التخطيط الاستراتيجي، وتخطيط العمليات الكبرى، ثم العمليات الصغرى التي تتم على مستوى الإدارات، ومن الضروري أن يتم التنسيق بين المستويات الثلاثة، وأن يُنظر إليها كعملية واحدة.
 
ولأن التخطيط الناجح للجودة يعتمد على البيانات ووجود نظم للتحفيز والتدريب والمتابعة وتقييم الأداء، فإن نتائجه الإيجابية تشمل المؤسسة بكل عملياتها وإداراتها وخدماتها ومنتجاتها، الأمر الذي يُحوِّل الجودة إلى ميزة تنافسية، وهذا هو الرابط القوي والمباشر ونُقطة الالتقاء المحورية بين إدارة الجودة والتميز المؤسسي.
 
في مقال طويل حول مفهوم التميز نشره "الدكتور/ أحمد نصيرات" عام 2018 في موقع Edara.com يُعرِّف خبيرُ التميز المؤسسة المتميزة بأنها "بِنْيَةٌ وظيفية منتظمة تقوم بتحسين بيئة العمل داخلها، وتشجيع فُرَص رفع أدائها الإنتاجي، وتقديم قيمة مُضافة للطرف الخارجي من العملاء والمتعاملين معها، مع ما يستوجب ذلك من تفهُّم وتوقُّع الاحتياجات واستثمار الفرص، وكل ما يجعل المؤسسة تقدم صورة إيجابية للتأثير على المجتمع، وتمثِّل دور الرافعة الاقتصادية والاجتماعية الحقيقية في موطنها، من دون إغفال خَلْق المؤسسة لثقافة خاصة بها في إطار التمكين لبلوغ أهدافها المرسومة".
 
ومثلما بدأ الاهتمام بإدارة الجودة الشاملة يتزايد في ثمانينيات القرن الماضي، فقد زاد أيضاً الاهتمام بالتميز المؤسسي بعد نشر كتاب "البحث عن التميز" لكلٍّ من "توم بيترز" و"روبرت ووترمان"، وعلى الرغم من أن حركة الجودة سبقت ظهور مصطلح التميز بعدة عقود، فإن التفريق بينهما غير ضروري، فالمفهومان والمعياران وجهان لعملة واحدة، لأن كلاً منهما يقود إلى الآخر ويشير إليه.
 
يرى كتاب "البحث عن التميز" أن المؤسسات التي تتسم بالتميز تجمع بين ثماني ممارسات وميزات، وهي: المرونة، والقرب من العميل، والاستقلالية والريادة، والإنتاجية، والالتزام بالقيم، والالتزام بتنفيذ الاستراتيجيات، وبساطة التنظيم ورشاقة الهيكل الإداري، ومركزية التوجيه مع استقلالية الأطراف، وليس غريباً أن تكون معظم هذه السمات، إن لم تكن كلها، معايير ضرورية تفرضها متطلبات إدارة الجودة الشاملة.
 
ما أود أن أضيفه هو أنه في حين أن الجودة الشاملة تشمل كل العمليات والأقسام والإدارات والمنتجات والخدمات، يُعدُّ تميز أي مؤسسة في نشاط أو ابتكار أو مجال إبداعي واحد أمراً كافياً، فبينما تتشابه المؤسسات في التزامها بمعايير الجودة، فإن المؤسسات المتميزة تعمل بطرق مختلفة وتُنفِّذ بأشكال لا تتقنها المؤسسات الأخرى، ولا حتى أقرب المنافسين لها. يقول "جيمس برايان كوين": "من المهم أن يرغب الإنسان في أن يكون الأفضل، وأن يتميَّز في شيء، دون النظر إلى ماهية هذا الشيء". يقودنا هذا الاختلاف إلى نوعٍ من الإثراء والتنوع والتكامل بين المنظومة العامة للجودة، والمنظومة الخاصة للتميُّز، فيُطيل أعمار المؤسسات والأفراد معاً.

بقلم : نسيم الصمادي