أعدادك المجانية

الرئيسية / المقالات

لعبة الحياة وكسر التعادل

بقلم : نسيم الصمادي 2019-07-29

في محاضرته الشهيرة مخاطباً طلاب مدرسة ثانوية في أمريكا، قال "بيل جيتس": "الحياة غير عادلة، وعليكم أن تتعايشوا معها" وكأنه يُقصَد بالعدالة تكافؤ فرص النجاح في عالم الأعمال، ولكن تبيَّن أن كل ما عرفته البشرية من ألعاب رياضية يعاني أيضاً من معضلة "اللاعدل واللاتعادل" لا سيما في عصرٍ صار فيه المال قادراً على شراء كل شيء: السلع والخدمات والفوز والناس والإحساس، حتى بادر الدكتور "مايكل ساندلز" أستاذ الفلسفة السياسية في هارفارد وأصدر كتاب: "ما لا يمكن شراؤه بالمال"، محذِّراً من مخاطر تشيؤ العالم وتحوِّل كل شيئ إلى سلعة.
 
بعد تفكير وقراءات واسعة في الموضوع، تأكَّدت من خطأ مقولة "بيل جيتس" ومن عمق وحكمة "ساندلز". الحياة عادلة في كل جوانبها ودوراتها الطبيعية والاقتصادية والسياسية وتقلُّباتها الاجتماعية والنفسية، لكنَّ موازينها تتشوَّه وتميل بكفَّاتها وكفاءتها بفعل قوانين بشرية لا تحترم التوافق الطبيعي في عالمنا، والتواؤم النفسي في داخلنا، وزاد يقيني بهذه الفكرة بعدما قرأت كتاب "موجز تاريخ كل شيء تقريباً" لرئيس جامعة دُورم "بيل برانسون" لأكتشف أن الكون سيتلاشى في نهاية المطاف بسبب نظام كسر التعادل، ولكن بالتدريج وبعد مليارات السنوات.
 
في بطولة العالم لـ"الكريكت"، وكما قرأت في "الجارديان" وسمعت من قناة "سي إن إن" فازت إنجلترا على نيوزيلاندا بعوامل الأرض والجمهور وبتحكُّم قواعد غامضة لم يفهمها سوى المنظمين، حتى عجز لاعبو الفريقين عن استيعابها أو تصديقها. لا أفهم قوانين اللعبة ولا أطيق مشاهدة مجرياتها الطويلة، ولكن فوز الإنجليز قرَّرته الأنظمة والقوانين، أكثر من الجدارة والمهارة واللياقة والموهبة، وهذا ما حدث في ذات اليوم تقريباً في بطولة ويمبلدون بفوز الصربي "نوفاك جوكوفتش" بفعل تغيير جديد في قواعد اللعبة.
 
قاعدة كسر التعادل التي حسمت المباراة لصالح "جوكوفتش" على حساب "فيدرر" طُبِّقت لأول مرة هذا العام، وحسمت أطول مباراة في تاريخ البطولة، فخرج الموهوب خاسراً. إحصائيات المباراة تؤكِّد أفضلية "فيدرر" الذي حقَّق 218 نقطة مقابل 204 لجوكوفتش، وفاز في 36 شوطاً مقابل 32 لمنافسه. هل تصدقون؟ نعم، هذا ما حدث بسبب أشواط كسر التعادل ونظام جديد وضع حداً أقصى لعدد أشواط المجموعة النهائية وهو 24 شوطاً. المجموعات الثلاث التي كسبها الفائز حُسِمت بشوط كسر التعادل، وبنقطتين. في حين كسب الخاسر المجموعة الثانية بفارق خمسة أشواط لا خمس نقاط، والرابعة بفارق شوطين لا نقطتين.
فلماذا يحدث ويتكرَّر هذا؟
تدور اليوم حول العالم حوارات يشارك فيها واضعو السياسات وفلاسفة التشريعات، وهي نقاشات منطقية تهدف إلى تغيير القوانين لتصبح أكثر عدالة، ولكن صعوبات كثيرة تحول دون ذلك، وعلى رأسها قوة المال، وتحكم منطق السوق بمنطق الحق، حتى ليقال إن خروج مصر من كأس أفريقيا مؤخراً نتج عن تدخل أحد وسطاء السوق في فرض لاعبين معينين على الفريق رغم أنف المدرب. من هنا لا تستطيع الاتحادات الرياضية التضحية بالإثارة ومتعة المشجعين والمتفرجين وعمولات المتنفذين، حتى لا تفقد مداخيلها الضخمة. بمعنى أنه ليس من حق الرياضة أن تفوز على "البيزنس"، وأنه لا مناص من استمرار تحول العالم برمته من مجتمع يُدار تربوياً ومعرفياً وقيمياً، إلى سوق يُدار آلياً ومالياً فقط.
 
من الواضح أن رأس المال ينتصر رغم فشل الرأسمالية، وأن السوق ينفصل عن الاقتصاد ليشكِّل عالماً فارغاً من قيم الاقتصاد السلوكي الذي يحاول حمايتها من هجمات الذكاء الاصطناعي والإدارة الرقمية، ولكن يبقى التفاؤل حاضراً بأن تنتصر الحكمة على المصلحة، والفلسفة على الكمبيوتر، ليبقى من المستحيل انتصار العقل على القلب أو العكس، بشوط كسر التعادل.
 
ستبقى هناك قيم مطلقة ومبادئ كونية راسخة لا يمكن شراؤها بالمال، منها: السعادة، والحب، والشرف، والشجاعة، والثقة، والصدق، والصداقة، والحقيقة، والاحترام، والولاء، والذكاء، والانتماء، والعطاء، والتضحية، والفطرة، والحدس، والوعي، والأمانة، والنزاهة، والإحساس بالجمال، والقائمة تطول!

بقلم : نسيم الصمادي