أعدادك المجانية

الرئيسية / المقالات

التعليم والأثر وتجاربنا الفاشلة

بقلم : د/ يوسف ربابعة 2019-06-23

نحن لسنا سوى مجموعة من التجارب الفاشلة التي تشكِّل معرفتنا بهذا العالم، فبقدر ما تملك من تجارب فاشلة تكون أقدر على فهم الحياة أو الوعي بها، من غير أن تجعلك تجاربك الناجحة مفتوناً بذاتك ومعجباً بها.
 
من أشد ما يمكن أن يلاحقك في سنَّي عمرك هو قدرتك على التأثير في مكان عملك، وأشعر بأنني لم أحقق إنجازاتٍ كبيرةً في مجال التعليم، رغم الطموحات التي كنت أتحلَّى بها، ولأن لوم الظروف والواقع من سمات العاجزين فإنني أحمِّل الظروف والواقع كل ما فشلت فيه، ولا ألوم نفسي إلا قليلاً، وذلك من باب الاحتفاظ بالتماسك النفسي وتقدير الذات، فكل فشل هو خارجنا، وإنني بكل إصرار أؤكد أنني قادر على عمل المعجزات، لكن العالم كله ضدي، فكيف لي أن أنجح إذن؟
بما أنني أعمل في التعليم منذ تخرُّجي في الجامعة، أي قبل أكثر من ربع قرن، فإنني أعترف أيضاً أن نظامنا التعليمي يحتاج إلى تأهيل المعلمين قبل الطلاب، وإنني من أول يوم أصبحت فيه معلماً لم أتعلَّم مهارة جديدة من أحد، ولا من دورات أو محاضرات، وكل ما حصل أنني تعلَّمت بالتجربة على الطلاب، الذين نلومهم اليوم على ما هم عليه، ولا نتذكَّر أنهم ضحايا فشلنا أيضاً.

تلك الفكرة، فكرة الأثر، كانت تلاحقني دوماً، وتجعلني أشعر بالعجز، فلا يقاس إنجازك بسنوات عملك، أو بما حقَّقت من مناصب أو ربح مادي، بل في قدرتك على أن تترك أثراً في مجال عملك، أن تجد فيمن تُعلِّمهم تفوقاً عليك، متجاوزين فشلك، خارجين من قيد أفكارك نحو حرية تفكيرهم واستقلال رؤيتهم.
ليس المقصود بالأثر أن يُقلِّدك طلابك، بل أن يتجاوزوا أفكارك وطريقتك وأسلوبك، والتوجه نحو تجارب فاشلة تخصهم، لذا كانت فكرة التجارب الفاشلة هي الأساس الذي ننطلق منه لتطوير ما لدينا، وفي التعليم تبدو الفكرة أكثر أهمية أيضاً، ويصبح مفهوم الأثر أكثر تعقيداً، لأن المعلمين عادةً ما يقعون تحت تأثير فرض السُّلطة المعرفية على الطلاب، ويشعرون أن كل ما يقولونه صحيح بالقياس إلى النقص المعرفي عند طلبتهم، فيميلون إلى الثقة بكل ما يصدر عنهم باعتباره حقائق، وعلى الطلاب التقيد به وتقليده، حتى أنني لاحظت بعض الأساتذة كبار السن يتحدثون عن حياتهم وسيرتهم للطلاب بوصفها مثالاً يمكن الاحتذاء به، ويَذكرون ذلك من باب الإعجاب بما حققوه مقابل التقليل من تجارب طلابهم.

إن اعتقاد الأستاذ بنجاحه وفشل طلابه لأنهم لم يسيروا على نهجه هو محو للأثر الذي أتحدث عنه هنا، فإذا قارنا الأثر بالبصمة فمعنى ذلك أننا نريد أن يكون كل طالب متميزاً بذاته، فلا وجود لبصمات متشابهة، وهذا المفهوم كثيراً ما يغيب عن أذهاننا – نحن المعلمين- ونشعر بعد سنوات خبرة طويلة أننا أصبحنا مقياساً للعالم، وكل مُخالف لتصوراتنا وأسلوبنا هو خاطئ، أو لا يقود إلى نتائج صحيحة، وتلك هي مصيدة المعلم، ومقتله في الوقت ذاته، إنها بطاقة ائتمان يضعها في جيبه، ظناً منه أنها تجعله محمياً من أي فشل، أو حتى الشعور به، وتلك أيضاً – حسب اعتقادي – هي أكبر معوقات ترك البصمة أو الأثر، كما اتفقنا على تسميته سابقاً.

إن شعور المعلم بأنه مجموعة من التجارب الفاشلة يجعله أكثر قدرةً على العطاء، وأكثر تقبلاً لأفكار طلابه والتعاطف مع أخطائهم، ومساعدتهم لتجاوز أي تجارب فاشلة قد تعترض طريقهم، وتمنحه الحرية بأن يتقبل فكرة التجاوز، فكرة الأفضلية عليه، وأن الأفكار الجديدة والأساليب الحديثة قد تكون مُجديةً أكثر مما اعتاده. إننا نسعى بالتعليم للخروج من عقولنا لإنتاج عقول جديدة قادرة على اكتشاف مساحات فشلنا التي اعتدناها، ونعتقد أنها نجاحات متتالية.

بقلم : د/ يوسف ربابعة