من المفترض أن التعليم يؤهِّلنا للمستقبل، غير أن أغلب ما يتعلَّمه أبناؤنا وطلابُنا اليوم لن يكون ذا علاقة بحاضرهم ومستقبلهم حين يتخرَّجون في الجامعات بعد سنوات. تشير دراسة أجرتها جامعة أكسفورد إلى أن 47% من الوظائف التي نعرفها اليوم ستختفي بعد عشرين عاماً، ولذا ينبغي إعادة التفكير في منهجيات وبرامج إعداد الطلاب للعالم الجديد الذي طرق أبوابنا، ودخل.
أغلب ما نُعلِّمه في المدراس ثابت لا يتغيَّر. ما زلنا نقول إن إدارة العالم تقوم على حقائق مُطلقة وأرقام مدَّققة، ف، في حين يقول المُنظّر "سام أربسمان" إن الحقائق تمثل نصف الحياة، فبينما يتسارع التراكم المعرفي، تزول الحقائق الثابتة وتختفي مسلَّمات الحياة. عندما تعلَّمنا برمجة الأجهزة الذكية بكل أنواعها وأشكالها ووظائفها، علَّمونا أساسياتٍ صارت اليوم نسياً منسياً، اليوم يقل اعتماد أدواتنا الذكية على التشفير الرقمي؛ الصفري والأحادي، لنستبدل بها قوانين الكم والذكاء الاصطناعي وإيحاءات الأدمغة البشرية. سينزع مبدعونا الأذكياء إلى تخزين بيانات أقل على رقائق السيليكون، ومعارف أكثر داخل الحمض النووي، ولا توجد طريقة حتى الآن لتعليم أبنائنا كيف يفعلون ذلك. الطريقة المُثلى لتعليمهم ذلك وتأهيلهم لصنع المستقبل هو تطوير قدراتهم على التعلم والتكيف والاستجابة الذكية لكل الاحتمالات المستقبلية.
بينما تتولَّى الآلات أداء أصعب المُهمات، تبقى هناك قدرات ومهمات لا تُطاولها، وتعجز عن تَناولها، فمن المستحيل على الآلة أن تتعلَّق وتنسجم وتشعر بما يدور داخل الإنسان كما يفعل شريكه وحبيبه وزميله وعميله الإنسان. الدفء شعور إنساني جميل وذو معنى، ويزيد غيابُ مشاعر التعاطف النبيلة عن الآلات الباردة من مُهمات تصميم المنتجات والعمليات التي من شأنها أن تزيد شفافية الإنسان الروحية ومتعته الأخلاقية والجسدية، وتوفّر له ما يحتاج إليه -حقاً- من خدمات، ومن المُرجَّح أن تتطلَّب العقود القادمة مهارات الإبداع في التصميم، بالإضافة إلى ذكاء عاطفي يمكِّن أبناءنا من التعامل والتفاعل والتواصل مع كل الناس من كل الأجناس، لا سيما الشخصيات الصعبة التي ستزيدها ضغوط الإنتاج والعمليات التحليلية توتراً وكآبة.
يتركَّز التعليم الحديث على تدريس العلوم والهندسة والرياضيات، وفي حين يبدو التفوق في هذه المواد أمراً محموداً، فإن دراسة الفنون والآداب والتاريخ والفلسفة وعلم النفس أهم وأولى لموظفي المستقبل، فالجماليات قوة مؤثرة في كل مجالات الإبداع، فهي مهمة بالنسبة إلى العلماء والمهندسين والرياضيين، كما هي بالنسبة إلى الموسيقيين والشعراء والمصورين والراقصين والرسامين والمصممين.
لقد تفوَّق موقع أمازون عبر العالم نظراً إلى عنايته بجودة الكتابة بكل اللغات. جودة اللغة والأسلوب تعكس اهتمام أمازون بالإنسان. تفوَّقت أمازون في هذا على الجميع وسبقت جوجل التي وضعت البيانات فوق التبيين، وبدأت شركة آبل تتراجع نظراً إلى تزمُّتها واهتمامها بالآلة والجهاز وطريقة العمل على حساب الإنسان، وإذ يتركَّز اهتمام العالم اليوم على تعلم اللغة الإنجليزية، أرى أن المتفوقين في اللغة العربية سيحظون في الجيل القادم بفرص رائعة، لأنهم سيشكِّلون صفوة الندرة، مقابل الكثرة المحبوسة خلف قضبان لغة عالمية واحدة تتقنها الآلة أكثر منهم.
تُؤدَّى الأعمال العظيمة اليوم من خلال فرق عمل لا أفراد، وسيزيد ذلك كلما سيطرت الآلات على الوظائف والعمليات، في حين أن وظائف المستقبل لن تعتمد على الحقائق الرقمية، بل على تفاهم وتعاون البشر المسؤولين عن تصميم عمل الآلات، ليصبح التعاون ميزة تنافسية تزداد عمقاً وتأثيراً بمرور الوقت.
علينا أن نكون أكثر صدقاً مع أنفسنا، وأن نعترف بأن خبرات أطفالنا التعليمية في مدارسنا التقليدية لا تعكس واقعنا، فالعالم القادم -يبدو من الآن- أكثر تعقيداً مما نراه وما يمكننا تخيله، وحيث يقوم النمو والإبداع على ركيزتين هما التفرد والأصالة –كما قرأت في كتاب ترجمتُه قبل بضع سنوات– فإنني لا أثق بالآلات ولا بالبيانات؛ لأنهما تفتقران إلى الأصالة والتفرد معاً.
علموا أبناءكم الرماية والسباحة وكرة القدم والفيزياء النووية والاقتصاد، ولكن علِّموهم الرقص والموسيقى والشعر الرومانسي والفلسفة والكتابة والرواية، ولغة القرآن، أولاً.