الإجمالي $ 0
سلة المشتريات
دراسة للدكتور/ أحمد زهاء الدين عبيدات
أستاذ مساعد في اللغة العربية والحضارة الإسلامية في جامعة "ويك فوريست" في الولايات المتحدة الأمريكية
كيف يجوز لكاتبة بريطانية مغمورة مثل "جوان رولنغ"، مؤلفة قصص هاري بوتر، أن تصبح أغنى من ملكة بريطانيا؟ وكيف لأساتذة جامعيين أن يحصلوا على جوائز نوبل في الاقتصاد، ويصيروا مستشارين للرؤساء والملوك، فيسهموا في تغيير الاقتصاد العالمي؟ وكيف يقتدر أمريكيان لم يكملا الدراسة الجامعية مثل: بل غيتس، ومارك زوكربيرغ، على تغيير حياة البشرية؟
لا شك أن تفسير وضع تلك المهن في العالم العربي يثير الدهشة، كما أن تدني المكانة والعائد المادي لدى المشتغلين العرب بالإنسانيات والاجتماعيات والفنون أمر محير، فما تفسير تدني تلك المهن؟
أولاً: الفقه التاريخي لتوزيع المهن في الهرم الاجتماعي
أياً كان مدى نقد الفلسفات السياسية والأخلاقية لإشكالات الهرم الاجتماعي ومفاسِد استغلال فائض القيمة من الكادحين، فإن وجوده كان شرطاً مسبباً لظهور الطبقة الثقافية، فالطبقة الثقافية المتخصصة مهما صغر حجمها، لا تملك الوقت للتفرغ لإعالة نفسها، فقد وجب على الطبقة الدنيا أن يقوموا على إعالتها من خلال فائض الإنتاج، وحينئذٍ تمكنت من التفرغ للكتابة وتدوين قصص أقوامهم، وترسيم حروفها الكتابية، والاهتمام بحركات المواسم وتدريسه للمجتمع، ولا بد من التنبيه إلى أن أثر فائض الإنتاج شرط يمكن اختيار غيابه في المجتمعات التي تعتمد على المُشافهة والحفظ، وتخلو لغاتهم من الكتابة وتدوين العلوم وظهور التعليم، وبناءً عليه يمكن صياغة القاعدة الآتية:
على قدر تعقد الهرم الاجتماعي تتولد الحاجات، وعلى قدر الندرة الحقيقية للمهنة المُشبِعة لهذه الحاجات، تكون قيمة المهنة، ويكون عوضها من التكريم المادي والمعنوي، لذلك ستجد أن مهنة البيع أكثر المهن انتشاراً، وهذا على خلاف مهنة جراح الدماغ، أو مخرج الأفلام الضخمة.
ثانياً: مُعضلة تقييم المشتغلين بالثقافة في هرم توزيع العمل العربي
الاندهاش من تمكن الأديب والأستاذ الجامعي والمخترع، من الارتقاء في السلم الاجتماعي للدول المتقدمة، هو فرع من عدم إدراك الخدمة التي تقدمها هذه العقول إلى المجتمع البشري ودورها في تطور الاقتصاد العالمي، ذلك لأن المجتمع العربي ألِفَ أن يكون الطبيب معالجاً للآلام، وأن يكون المهندس بنَّاءً وصائناً لضرورات الحياة من أبنية وآلات، وأن يكون المحاسب أو المدير مدققاً لأرباح المستشفيات والمصانع، وهكذا توزع السلطة في المجتمع على من يقتنع بوظيفته ومنتجاته.
فماذا يصنع الأديب والمؤرخ في دورة الاقتصاد العربي؟ فهؤلاء يقدمون فقط المعنى والقيم، ولا يقدمون ما يُؤكل ولا ما يشفي أو يَبني.
ثالثاً: بيان وظيفة الاشتغال بالإنسانيات في العالم الحديث وتعليل مكانة المُعلم
عدم إدراك أن مهنتي الطب والهندسة وغيرهما، ما هي إلا نتاج العقلية العلمية التي ترسخت في الغرب، حيث إن هدف الهرم الإنتاجي هو صناعة مجتمع المعرفة، ويقوم مجتمع المعرفة على سادوس الإنسانيات وهو:
- الفلسفات النظرية (نظرية المعرفة والميتافيزيقا).
- الفلسفات العلمية (نظرية القيم الأخلاقية والجمالية).
- التراث الديني والفني والأدبي.
- اللغات وعلوم اللسانيات.
- حقائق العلوم الطبيعية.
- المنطق والتواصل.
أيقونة العناية بالإنسانيات هي المعلم، لأنه غارس بذور تلك المهارات لدى طلبة المدارس والجامعات، وتدهور حال المعلم هو تدهور للإنسانيات، ولذلك هناك سلسلة من المهارات:
- لا تنتج الطلاقة اللغوية إلا من حصيلة لغوية متراكمة ومعقدة من خلال المطالعة والمناقشة والإنصات.
- يمر إنتاج العلوم عبر احترام الميول المعرفية للأفراد، فمثلاً: يُسمح للناشئة بالتخصص في العلوم حسب ميولهم، ثم تصدر الكتب للدراسة التي تضع الأطر للحقل المعني وتُهيمن على السوق.
- لا تنتج المفاهيم المبتكرة إلا من خلال الخطوتين السابقتين، للوصول إلى المرحلة الثالثة: التفلسف وإبداع المفهوم، ما يعني أن إضعاف المُعلم يُفضي إلى إهدار إنسانية الإنسان ومحو ذاكرته الحضارية.