تلقيت العام الماضي دعوة للمشاركة في ورشة عمل مع أكثر من ثلاثين مفكراً عربياً وإسلامياً، لبحث مسألة إصدار عمل موسوعي جديد حول الحضارة الإسلامية. لم تفاجئني الدعوة لاعتقادي بأن أعضاء الهيئة التأسيسية للموسوعة يبحثون عن رئيس تحرير ذي ثقافة موسوعية ومعرفة فنية بأعمال التأليف والترجمة والتحرير، لكنني فوجئت بأن عملي كرئيس تحرير لم يكن سبب تلك الدعوة!
عكفت طوال عام 1980 على البحث في معضلة إصدار دائرة عربية، وقضيت مساءات ذاك العام كلها في مكتبة جامعة الملك سعود بالرياض، أجمع كل ما كُتِب في الموضوع حتى ذلك الحين، وأبحث عن الأسباب الحقيقية لفشل العرب في إصدار دائرة معارفهم الأصيلة. تمخَّض البحث عن نشر كتاب بعنوان: "دائرة المعارف العربية: أزمة فكر لا أزمة نشر". وعندما طلبت من الدكتور "حسن ظاظا" رحمه الله تقديم الكتاب، سألني: "لماذا لا تتقدم بهذا البحث لنيل درجة الماجستير أو الدكتوراه؟"، فابتسمت وقلت: "سأعتبر هذه الشهادة من أستاذي درجة علمية وسأتذكرها ما حييت". تذكرت كلمات الدكتور "ظاظا" عندما علمت أن الكتاب هو سبب دعوتي إلى الحلقة النقاشية، وقد بدا لي هذا أمراً منطقياً لأنني لست متخصصاً في علوم الدين الإسلامي، وإن كنت قد درست فلسفة تصنيف العلوم في جامعة القاهرة في سبعينيات القرن الماضي.
قُسِّم المشاركون في ورشة العمل إلى ست مجموعات، وكانت تُجرى كل يوم أربع جلسات عصف ذهني تتناول على التوالي المراحل والخطوات التي يجب أن تمر بها عملية إصدار الموسوعة. وفي كل الجلسات – باستثناء واحدة – كانت المجموعة التي أشارك فيها تحظى بأعلى درجات التقييم، مقارنةً بالمجموعات الأخرى، ولم يكن هناك من سبب لهذه النتيجة سوى تجربتي المختزنة في إعداد البحث الذي كان قد مضى عليه أكثر من ربع قرن، ولم أكن أتخيل أنه يمكن أن يكون للطاقة المعرفية المختزنة كل هذا الألق والحضور على مدى السنين!
السؤال الذي كنت أبحث عن إجابة علمية موثقة له وأنا أتعمق في مباحث الكتاب هو: "لماذا فشلَ كل العرب في إصدار دائرة معارفهم الشاملة؟"، وكانت الإجابة المنطقية التي توصلتُ إليها أنه لا توجد أمة على وجه الأرض استطاعت تنظيم وإخراج دائرة معارفها المتكاملة من دون أن تملك رؤية فكرية وثقافية وسياسية موحدة، ونظرة مستقبلية ثاقبة، فدوائر المعارف التي تركز على مجرد طرح وشرح الماضي، لن توفر لنا المفاتيح والأدوات المناسبة للتعاطي مع الحاضر واستشراف المستقبل. ومن ثم فإن الأسباب التي ساقتنا إلى الفشل في بناء مجتمعاتنا، هي ذاتها التي قادتنا إلى الفشل في إدارة المعرفة، والإبداع العلمي، والتعاون الاقتصادي، والابتكار الصناعي، والتآلف السياسي.
في مقولة نشرتها مؤخراً على "فيسبوك" كتبت: "كيف للعرب أن يتعلموا كيف يختلفون، وهم لا يعرفون كيف يتفقون؟!". فهل تريدون لعالمنا العربي المتشرذم أن يتوحَّد؟ دعونا نمارس القراءة، ونحترم الثقافة، ونُعِدُّ المزيد من الأبحاث العلمية الجادة والنظيفة، لعلنا نستطيع استعادة الضمير، وتوحيد التفكير، وإصدار دائرة معارف عربية موضوعية، غير منحازة!