أنت وأنا ونحن دائماً على مفترق طرق. قد تكون تخرجت في الجامعة للتو، أو تخليت عن وظيفتك مختاراً أو مكرهاً، أو عزمت على تغيير مسارك المهني، أو جعلتك الضغوط الاقتصادية والجيوسياسية تعيد النظر في أولوياتك. ففي عالمنا سريع التغير، تواجهنا مثل هذه الخيارات كل يوم، فهل لديك أساس علمي يمكنك اتخاذ قراراتك على ضوئه؟
عندما سُئل "بل جيتس" عن أكثر المهن أهمية وتأثيراً في مستقبل البشرية، أجاب بأنه سيختار مهنة من ثلاث هي: العمل في مجال الذكاء الاصطناعي الذي سيجعلنا أعلى إنتاجية وأكثر فاعلية، أو في مجال الطاقة لأننا بحاجة إلى طاقة نظيفة ورخيصة لا تدمر البيئة وتلوث المناخ، أو في مجال العلوم الحيوية التي ستجعلنا نعيش حياة أجمل وأطول.
ما ذكره "جيتس" صحيح إلى حد ما، ولكن هناك مجالات أهم، وأرى أن العمل في مجالات العلاج النفسي والاجتماع والتربية الفردية أكثر أهمية من العلوم الحيوية، فالإنسان يفضل أن يعيش حياة سعيدة لسنوات طويلة، فإذ بدأت الروبوتات تقتحم بيئة العمل مدفوعة بتقنيات الذكاء الاصطناعي، وحيث بدأنا نعاني من العزلة بسبب وسائل التواصل الاجتماعي، وبدأت تطبيقات التعليم الإلكتروني تلعب دور المعلم، فإن الحاجة إلى أطباء نفسيين، وإخصائيين اجتماعيين، ومرشدين تربويين ستتضاعف.
اعترف "جيتس" في مقالة خص بها موقع "لينكدإن" بأنه اكتشف متأخراً أن الذكاء ليس مهماً كما نظن حتى عهد قريب. فالذكاء العاطفي، والقدرة على العمل في فريق، واستثمار المواهب الفردية، والميزات الاختلافية التي تعطي كل إنسان بصمة ذكائية نوعية، أهم من المعرفة الفنية التي يمكن تعلمها في الكليات وتطبيقها باكتساب المهارات، وهذا ما جعلني أُغلِّب الوظائف الإرشادية ذات اللمسة الإنسانية، على الوظائف الذكائية التي تتفاوت فرص الأفراد في اكتسابها تبعاً لقدراتهم المادية، وذكاءاتهم الأكاديمية المحدودة التأثير.
كتبت مقالاً قبل أعوام قلت فيه إن جامعة "هارفارد" غير معتمدة، والمقصود هنا المجاز لا الحقيقة، فهي جامعة عريقة، ولكن التخصص في مجالات بعينها، والحصول على شهادات معتمدة من أشهر الجامعات ليس هو الطريق الوحيد، وربما ليس الطريق الصحيح للإبداع والتميز. كتب "شامبيتر" في مجلة "الإكونومست" عدد 6 مايو 2017 يؤكد أن "هارفارد" تحولت من "رائع إلى جيد" وفعلت عكس ما قاله "جيم كولنز" في كتابه الأثير: "من جيد إلى رائع". يعتبر "شامبيتر" مقاله رسالةً ضمنية إلى كبار أساتذة الجامعة التي بدأت الشائعات تحوم حول مصداقية وأخلاقية الحالات الدراسية والتجارب التي يجريها باحثوها، بتمويل صريح وغير مريح من الشركات العملاقة التي توجه الحالات البحثية لتحسين صورتها، بدلاً من تقييم استراتيجيتها، ودراسة كفاءتها.
فما القرار الأخطر الذي يمكنك أن تتخذه الآن؟ أن تتخصص في الذكاء الاصطناعي وبرمجة الروبوتات، أو تنافس لتتخرج في "هارفارد"؟ سواء تخرجت من أعرق الجامعات، أو فقط من مدرسة الحياة، فإن القرار الذي سيحقق لك النجاح والسعادة أو كليهما، أسهل مما تتصور: أولاً عليك أن تتمتع بأخلاق عمل لا تتزعزع، وبطاقة إيجابية لا تلين، وثانياً: لا تتخصص ولا تعمل في مجال لا يستأثر بشغفك ويستحق جهدك، ولا يتوافق مع نقاط قوتك ومواهبك!