عندما أطلق "آدم سميث" تعبيره المجازي Invisible Hand، أي "اليد الخفية" وهو يفكر ويكتب مؤلفه الشهير "ثروة الأمم"، كان يضع أولى لبنات حرية التجارة العالمية بمفهومها الحديث. وبعد مرور قرنين ونصف على نشر الكتاب، أرى أنه يمكننا أن نعيد وسم المفهوم بمصطلح Invisible Mind أي "العقل الخفي"، بعد أن صار الذكاء هو المقياس الحقيقي لـ"ثروة الأمم"، فإذا كان بمقدور آليات السوق والتفاعل الاجتماعي والمشاعر الأخلاقية توجيه جهود الأفراد المبذولة لتحقيق مصالحهم الشخصية نحو تحقيق مصلحة المجموع، فإن توجيه ذكاء الأفراد في قنواته الصحيحة في عصر اقتصاد المعرفة سيتحول إلى سلوك اقتصادي إيجابي، وهذه ضرورة تنافسية حتمية في المجتمعات الذكية.
لاحظت عندما انهمكت في الدراسة في إحدى الجامعات الأمريكية أنني صرت أستوعب كل ما أقرأ من المرة الأولى، فمع كثرة القراءات المطلوبة وضغط الوقت وشدة المنافسة، لم يكن الوقت يتسع لأكثر من ذلك، فتكيَّف المُخ على الاستيعاب السريع، وبدأ يعمل بهذه الآلية. ظننت في البداية أن هذا السلوك الاستيعابي سيلازمني ويصبح قدرة مستدامة، إلا أن ظني لم يكن في محله، ولم أدرك سبب تبخر قدراتي الاستيعابية عندما عدت للعمل في الدول العربية، إلا بعدما قرأت دراسة "جيمس فلين" حول متوسطات الذكاء، وما كتبه "جاريت جونز" عن الذكاء الجمعي.
لقد تبين أن متوسط ذكاءات البيض في أوروبا وأمريكا يتراوح حول 100 تقريباً، وأن الشرق آسيويين يتفوقون عليهم بحوالي 5 درجات، بينما ينخفض ذكاء الأمريكيين من أصل أفريقي إلى 85، بينا جاء ذوو العرق اللاتيني في أمريكا الجنوبية في الوسط بمتوسط 90، وينخفض معامل ذكاء سكان صحارى أفريقيا إلى 75 في المتوسط. أهم ما في هذه المؤشرات هو ملاحظة أن متوسط ذكاء الأفريقيين في أمريكا يفوق أبناء جلدتهم في الوطن الأم بـ10 درجات، وذكاء الآسيويين المهاجرين من شرق آسيا والهند وباكستان إلى أوروبا وإلى أمريكا، يفوق متوسط ذكاء الماكثين في مواطنهم الأصلية.
متوسط الذكاء الفردي لكل منا يؤثر على إنتاجيتنا ونتائجنا الإجمالية في الحياة، ولكن مستوى معيشتنا وسعادتنا ومخرجاتنا ومحصلة أدائنا تعتمد أكثر على متوسط ذكاء المجتمع أو المكان أو الأمة التي نعيش فيها، أكثر من اعتماده على معامل ذكائنا الفردي. وعليه، يمكننا القول إن "أحمد زويل" و"محمد البرادعي" و"نجيب محفوظ" لم يكونوا ليفوزوا بجوائز "نوبل" لو استكمل الأول أبحاثه في جامعة الإسكندرية، وعمل الثاني أميناً عاماً لجامعة الدول العربية، وعاش الثالث في دولة أقل ثراءً ثقافياً وحضارياً من مصر؛ كالأردن وليبيا والكويت مثلاً.
يرى "فلين" و"جونز" أن فجوة الذكاء الجيناتي بين أبناء شعوب الشمال والجنوب، وبين الفقراء والأغنياء تضيق بالتدريج، بسبب الإنترنت والعولمة ووسائل التواصل وتعميق التعاون الإنساني. لكن هذه الفجوة لا تضيق بنفس السرعة بين الأمم بعضها وبعض. فمعدلات ذكاء الأفراد مهما ارتفعت من خلال محو الأمية والابتعاث للخارج وتعميم التعليم، لا تنعكس على ذكاء المجتمع وسعادته وفاعليته، لأن للذكاء الجمعي اشتراطات إضافية وبيئية تثري أو تستنزف الذكاء الفردي.
في كتابه "الثقة"، تحدث "فوكاياما" عما أسماه "رأس المال الاجتماعي، وهو: "قدرة الأفراد على العمل لتحقيق هدف مشترك داخل مجموعات أو منظمات"، وهذه القدرة التفاعلية تسمى "ذكاء الخلية". فأفراد خلايا النحل والنمل لا تتمتع بأي ذكاء، ولكنها تتفاعل وتتكامل وهي تعمل في جماعات، فترتفع إنتاجية المُعامل الإجمالي لذكائها وتتمكن من تحقيق فائض إنتاجي يتم تخزينه أو تدويره أو تصديره. وبهذا المعنى فإن العمل المنظم يُنمِّي المخ التعاوني ويخلق الذكاء الجمعي من موارد فطرية ومعرفية لم تكن موجودة، أو هي – بمعنى أدق – غير ملموسة.
استمعت مؤخراً إلى محاضرة ذكية لرئيس وزراء مملكة "بوتان" يتحدث فيها عن "إجمالي السعادة القومية" بدلاً من "إجمالي الدخل القومي"، وعن انخفاض الانبعاثات الكربونية إلى الصفر وانعدام التلوث تماماً بسبب الذكاء الحيوي واستدامة البيئة الطبيعية، وقد ربَط بين الأداء الإجمالي لشعب "بوتان" الذي لا يزيد عن 700 ألف نسمة، وبين قرارات الذكاء السياسي واستدامة البيئة الإدارية التي تُلزم الجميع – بمن فيهم الملك – بالتقاعد في سن الخامسة والستين. ومع انتهاء المحاضرة أيقنت أن Tshering Tobgay "شيرنج توبجاي" يتحدث عن ذكاء الخلية الفطري، لا عن متوسطات الذكاء الفردي، ويبدو أن لاسم رئيس الوزراء دلالات وعلاقات بالمستوى الرفيع من المشاركة التي تضع "العقل الخفي" فوق "اليد الخفية".
من المرجح أن ذكاء الإنسان العربي لا يقل عن المتوسطات العالمية. قد لا ننافس اليابانيين والكوريين الذي غذَّوا ذكاءَهم الجَّمْعي بأخلاقيات العمل واحترام الآخر والتعاون والمشاركة والتفكير العلمي والمستقبلي، لكننا لا نقل بأي حال عن ذكاء البقية. أما ذكاؤنا الجمعي فهو في الحضيض؛ حيث أدى افتقارنا إلى "العقلية الخفية" و"ذكاء الخلية" واستنادنا إلى القيم الماضوية، وغياب المؤسَّساتية، وفساد القِمَم الإدارية، واعتمادنا على الموارد الطبيعية والنظم الاقتصادية القبلية، أدى كل ذلك إلى: استنزاف الذكاء الفردي وضياع الرَّعِّيَة.