عندما تبحث في الإنترنت عن أكثر الكتب مبيعًا،
ستجد كتبًا كثيرةً تظهر وتغيب، ما عدا كتاب "العادات السبع" الذي بقي في
القائمة على مدى عشرين عامًا دون انقطاع. فإن لم تكن قرأت هذا الكتاب بعد،
فبادر إلى قراءته مهما كنت مشغولاً. بل يكفي إحساسك بالانشغال والارتباك وضغوط
العمل سببًا لقراءته. فالمهم كما يقول "ستيفن كوفي": "أن يبقى الأمر المهم في
حياتنا، هو الأمر المهم."
مات صاحب "العادات السبع" في منتصف شهر يوليو الماضي وهو يقود دراجته الهوائية
للتريض وهو في الثمانين من العمر. في عام 1989، نشر "كوفي" كتابه هذا بعدما
قضى عشر سنوات ينقحه ويعمقه. كما أمضى عمره وهو يبحث ويدرس فلسفة الإدارة
والقيادة في العالم؛ وشمل درسه وبحثه مخرجات القيادة في "أمريكا" من عام 1776
وحتى عام 1976؛ حتى أفنى عمره كله وهو يطور مصفوفته العظيمة في قيادة الذات
والعلاقات والمؤسسات.
إذا اعتبرنا "بيتر دركر" أعظم مفكري الإدارة في التاريخ، فإن "كوفي" هو أعظم
منظري القيادة دون منازع. ألف "دركر" 39 كتابًا باع كل منها مليون نسخة، وألف
"كوفي" حوالي 10 كتب، باع أحدها 39 مليون نسخة. وإذا كان "دركر" هو أستاذ
التنظيم في إدارة المؤسسات، فإن "كوفي" هو أستاذ تطوير الذات وأنسنة العلاقات.
وقد اتفق كل منهما على أن الفعالية عادة، وحين أوضح "دركر" الفرق بين الكفاءة
والفعالية، جاء كوفي ليوضح الفرق بين الشخصيتين الخارجية والداخلية، واعتبر
الكفاءة من سمات الأولى، والفعالية من سمات الثانية. ويكفيه أنه خالف كل علماء
الإدارة حين قال بأن الشخصية الحقيقية السوية والقوية هي أساس نجاح الأعمال،
وليس التنظيم الإداري ورأس المال. وبتفريقه بين شخصية الإنسان الخارجية
المصنوعة، وبين الشخصية الجوهرية المطبوعة، يكون "كوفي" قد أثبت خطأ دعاة
التغيير السهل القائم على فبركة ومكيجة الشخصية الخارجية من خلال البرمجة
اللغوية العصبية.
نشر "كوفي" عددًا من الكتب العظيمة منها: القيادة المرتكزة على المبادىء،
وإدارة الأولويات، والعادة الثامنة، وكتب أخرى عن الثقة والشخصية القيادية
للأطفال، والبديل الثالث. وقد مات وهو يؤلف كتابًا عن كيفية تخليص العالم من
الجريمة. إلا إن أعظم إنجازاته كان تطبيقه وممارسته للمبادىء التي ينادي بها.
فقد زاوج بين القول والفعل، وبين ما يدعو إليه وما يطبقه. وإذ حاول بعض
الأدعياء تقليده، جاءت تجاربهم فاشلة، ومحاولاتهم خائبة، لأنهم اعتمدوا على فهم
سطحي لمقولاته واكتشافاته. وكان من بين هؤلاء "طارق السويدان" الذي اغتصب قصصه
وسلوكياته وابتسرها فجاءت طروحاته مشوههة وأفكاره مبعثرة، فناقضت أفعاله أقواله،
وكذبت ممارساته نظرياته، إن كان يملك نظرية أصلاً. وقد حدث هذا مع كثيرين في
ثقافات ولغات متعددة، لأن مشروعية مصفوفة "العادات السبع" اعتمدت على التطبيق
لا على التلفيق. فلم يفهمها ممن درسوها ودربوها إلا الذين طبقوها.
يرى "كوفي" أن ثوابت الحضارة الإنسانية والدوافع البشرية تتلخص في ثلاثة هي:
استمرار التغيير، وحرية الاختيار، ورسوخ المبادىء. فهذه الثلاثية لا تتغير.
فالإنسان حر في خياراته التي يجب أن تقوم على المبادىء الكونية الراسخة لمواجهة
التغير المستمر الذي لا يتغير. وإذ يرى قراء "كوفي" وتلاميذه ومعارضوه ومؤيدوه
أن أعظم كتبه هو "العادات السبع" فإنني أرى أن كتابه "العادة الثامنة" الذي
نشره عام 2004 هو الأروع والأنفع.
يتعلق كتاب "العادات السبع" بعلاقة الإنسان بذاته وتحمله لمسؤولياته، ليحقق
انتصارًا خارجيًا في عالمه هو، بعد انتصاره الداخلي. بينما يتعلق كتاب "العادة
الثامنة" بانتصار الإنسان على نفسه من أجل الآخر. توجه "العادات السبع" ذاتي،
وتوجه "العادة الثامنة" إنساني. الأول ينحو إلى الفعالية، والثاني نحو العظمة.
الأول عجز الجميع عن تطبيق "عاداته السبع"، بينما يكفي كل إنسان أن يكتشف أجمل
ما فيه، ثم يدعو الآخر ليحذو حذوه، كما تنص العادة الثامنة.
بعد اكتشافي لنظرية "التمتين" أدركت لماذا عجز الجميع عن تطبيق منظومة العادات
السبع كاملة. تكمن نقطة ضعف "العادات السبع" في قوتها، وينبع نقصها من تكاملها
وتسلسلها، فإذا انقطعت حلقة منها، انهار نظامها كلية. وهذه هي عناوينها لمن لا
يعرفها:
- كن واعيًا ومبادرًا (عادة المسؤولية)؛
- ابدأ والنهاية في ذهنك (عادة القيادة والرؤية البعيدة)؛
- الأولويات أولاً (عادة الإدارة وتنفيذ الأهم قبل المهم)؛
- فكر ربح/ربح (عادة المعاملة العادلة)؛
- اسمع قبل أن تُسمع (عادة التواصل الإيجابي)؛
- تآزر مع الآخر (عادة عضو الفريق الفعال)؛
- إشحذ المنشار (عادة التجديد والاستعداد الدائم).
العادات السبع المطلوب من كل إنسان تطبيقها كثيرة. فلا يستطيع الجميع أن
يكونوا مبادرين ويتحملوا المسؤولية، ويصغوا للآخرين ويسمعوهم إلى ما لانهاية.
فهناك تناقض بين العادة الأولى والخامسة. ومن الصعوبة بمكان أن يجمع الإنسان
بين رؤيته للمدى الطويل، وبين اتخاذ القرارات الحاسمة السريعة في المدى القصير.
فهناك تضارب أيضًا بين العادتين الثانية والثالثة. ومن الصعب كذلك أن نفكر من
منطلق ربح/ربح، ثم ننصاع ونذوب كلية كأعضاء في الفرق التي ننتمي إليها.
لا أقول بأن منظومة العادات السبع خاطئة، بل هي في الواقع مثالية وأفلاطونية
وتكاملية ومطلقة إلى درجة تجعل تطبيقها كلها وبالتدرج المنطقي الذي رسمه "كوفي"
أمرًا مستحيلاً. ومن المستحيل أيضًا استكمال التوازن الكامل بين أبعاد حياتنا
الأربعة المركبة، كما تنادي العادة السابعة. هذا الفهم الناقد لنظرية "كوفي"
لم يدركه كثيرون. ولكني أجزم بأن كتاب "العادة الثامنة" التي تقول: "اكتشف
صوتك وساعد الآخرين على اكتشاف أصواتهم." جاءت لتصحح ما اعتور مصفوفة العادات
السبع من قصور. فقد يكون صوتي أو صوتك واحدة أو اثنتين أو ثلاثًا من العادات
السبع، نشكل منها مزيجًا قويًا يبذر أجمل ما فينا في تربة الواقع اليومي المعاش،
لينبت أداء، ويزهر فعالية، ويثمر عظمة. فعادة واحدة مميزة، تكفي إذ نركز عليها،
أن تتحول إلى إبداع لا اتباع، وإلى قوة لا متناهية من الفعالية والأداء المتميز.
أما تطبيق العادات السبع كلها، في تسلسلها وتصاعدها من الخاص إلى العام، ومن
الجزئي إلى الكلي، فهو أمر مستحيل. فمن لا يملك أحدها كجزء من ذاته، وفي إطار
قدراته، لن يستطيع إعادة بنائها وإنشائها، لأن فاقد أي شيء - من القدرات
والجدارات والدوافع والرغبات الإنسانية - لا يأخذه ولا يعطيه. فشخصيتنا
الجوهرية هي نتاج مركب ومزيج من عاداتنا اليومية النمطية واللاواعية التي
نفعلها يوميًا، حتى دون أن نريدها كما يقول "كوفي" نفسه.
مات "كوفي" وترك ذكرى خالدة، وتراثًا إنسانيًا عظيمًا. مات وهو يؤمن بأننا
نستطيع أن نختار أفعالنا، لكننا لا نستطيع أن نحصر ونحجم تداعيات تلك
الاختيارات. كان يركب دراجته الهوائية في الهواء الطلق، فانطلقت مسرعة وهوت به
فمات، لكن ذكراه وبصمته وحب العالم له، سيبقى خالدًا في تاريخ الفكر الإنساني
وإلى الأبد. فقد أحب عالمه وأعطاه، وهو الذي قال: "الحب كشعور هو الثمرة
الناضجة للحب كفعل."