أعدادك المجانية

الرئيسية / المقالات

قصتي مع الهندرة: المصطلح والكتاب

بقلم : نسيم الصمادي 2011-04-26

بعد قراءة مئات الكتب الإدارية على مدار العقود الثلاثة الماضية، يمكنني القول بأن كتاب "الهندرة" هو واحد من أهم عشرة كتب على أي مدير يبتغي النجاح بامتياز أن يقرأها.  فعندما يسألني العملاء والخبراء عن أهم الكتب التي على المدير أن يبدأ بها تكوين مكتبته، فإنني أقترح الكتب التالية: 
      -          "فن الحرب" للصيني "صن تسو" – وقد تولت "شعاع" ترجمته ونشره؛
      -          "مقدمة ابن خلدون"؛
      -          "الأمير" لـ"ميكيافيلي
      -          "الإدارة العلمية" لـ"فريدرك تايلور"؛
      -          "ممارسة الإدارة" لـ"بيتر دراكر
      -          "المبدأ الخامس" لـ"بيتر سنج"؛
      -          "العادات السبع" لـ"ستيفن كوفي" – نشرنا خلاصته عام 1993؛
      -          "اكسر القواعد السائدة" لـ"ماركوس باكنجهام" – نشرنا خلاصته عام 1999؛
      -          "من جيد إلى رائع" لـ"جيم كولنز" – أصدرناه عام 2002 في "خلاصات
      -          "الهندرة:  إعادة هندسة نظم العمل" لـ"مايكل هامر" و"جيمس شامبي".
 
وبصدور الطبعة الثانية من "الهندرة" تكون 18 عامًا قد مرت على تركيب وابتكار وتعريب هذا المصطلح الذي حقق شهرة واسعة.  ففي أكتوبر 1993، عربت مصطلح Reengineering مستخدمًا أسلوب "المزج التركيبي" ليدخل مفهوم "الهندرة" قواميس الإدارة العربية لأول مرة.  حدث هذا وأنا ألخص كتاب "مايكل هامر" الذي كان قد ملأ الدنيا وشغل الناس في ذلك الحين، ثم أحسست بضرورة ترجمة الكتاب كاملاً؛ فكانت اللغة العربية من أوائل لغات العالم التي أضافت نصوص "الهندرة" إلى صفحاتها.
 
كتبت في مقدمة الطبعة الأولى:  "الهندرة كلمة عربية جديدة مركبة من كلمتي:  هندسة وإدارة؛ وهي تعني "إعادة هندسة أو تصميم العمليات الإدارية".  وتم تركيبها على غرار "هندسة" لتواكب المفاهيم الجديدة التي بدأت تسود الإدارة العالمية في التسعينات."
 
في العقد الأخير من القرن الماضي كان العالم يتغير بسرعة.  واليوم يواجه العالم أزمات الركود والتذبذب الاقتصادي، فالتأرجح بين الانتعاش والركود لم يعد قابلاً للتنبؤ، ولم تعد هناك أوضاع ثابتة لتحركات الأسواق ومتطلبات العملاء ودورة حياة المنتجات.  وبالتالي، فإن نظرية "آدم سميث" ومبادئه حول "تقسيم العمل" لم تعد صالحة لمواجهة قوى التغيير الجذري.  في ذلك الحين انفجرت ثورة المعلومات وتزاوجت مع ثورة الاتصالات، وبدأت الإنترنت والموبايلات، وأصبح العالم يتحرك بسرعة فائقة أدت إلى الكثير من التطورات والابتكارات والفقاعات والانتكاسات.
 
حدد المؤلفان قوى التغيير الصاعدة في ذلك الوقت في ثلاث قوى تبدأ جميعها بحرف (C) وهي:  العملاء (Customers)، والمنافسة (Competition)، والتغيير (Change).  واليوم أضيف لهذه القوى المؤثرة قوتين أخريين هما: الاتصالات (Communications) لأن الهندرة ارتبطت دائمًا بالسرعة وبالنظم التي تحكم ثورة المعلومات، والصين (China) التي فرضت على العالم أنماطًا وأساليب جديدة في الإنتاج والمنافسة واختراق الأسواق.
 
نُشر الكتاب بأكثر من ثلاثين لغة، وكانت العربية الثالثة في الترتيب بعد الإنجليزية والأسبانية، وبيع منه خمسة ملايين نسخة بكل اللغات، واعتبره أسطورة الإدارة الكبير "بيتر دراكر" أفضل كتب الإدارة في العقد الأخير من القرن العشرين، لأن "الهندرة" أنتجت فهمًا أعمق للإدارة، وأعادت رسم عملياتها من جديد؛ مما حدا بأحد ممارسي "الهندرة" للقول:  "المتفائل يرى الكأس نصف ممتلئة، والمتشائم يراها نصف فارغة، والمهندر يرى فيها زجاجًا فائضًا عن الحاجة!"
 
توفي مؤلف الكتاب "مايكل هامر" عام 2008 وهو في الستين من عمره.  فقد أصيب المهندر الأكبر بسكتة دماغية أسكتت أسئلته، بعد أن كان من أكثر مفكري الإدارة طرحًا لسؤال:  "لماذا؟".  رحل "هامر" وترك وراءه رصيدًا لا ينضب:  أربعة كتب، وأربعة أبناء، وأربعة آلاف سؤال!  وترك أيضًا ذلك الحزن المعرفي العميق.  فقد كان متخصصًا في نظم المعلومات، وأخضع الإدارة لنظريات المعلومات وأعاد تشكيل فهمنا للعمليات الإدارية ولمعاني الفعالية الإدارية والسرعة والجودة والإنتاجية، في زمن المنافسة القاتلة والتغيير الذي يجتاح العالم بسرعة الضوء.
 
الهندرة والأزمة الاقتصادية
تركز "الهندرة" على المستوى الداخلي للشركة الذي يتضمن:  النفقات والهيكل التنظيمي وأساليب وبرامج ومقاييس الأداء وتصميم العمليات.  وبهذا فإن الهندرة تساعد الشركات عندما تتراجع حصتها في السوق نتيجة تراجع الطلب على منتجاتها، وعجزها عن ابتكار منتج جديد، وقصورها عن اجتذاب شريحة جديدة من العملاء وعدم قدرتها على تنشيط مبيعاتها من خلال قنوات توزيع جديدة.  وهي سلاح للتدخل السريع في الأزمات.  ولهذا أرى أنها السلاح الفعال الذي يمكن توظيفه بقوة لتجنب الآثار المدمرة للأزمة الاقتصادية التي أنهكت العالم منذ عام 2007 وحتى اليوم.
 
مع ارتفاع الأسعار، وزيادة نسب وفوائد الضمانات المالية، وتضخم التبادل التجاري، ومع غياب اللاعبين المخلصين عن سوق المال لبعض الوقت، كان على الخبراء أن يلاحظوا تفاقم آثار وتبعات هذه الظواهر؛ بيد أن إغفالها لمدة طويلة أو عدم دراستها قد أفضيا إلى كوارث فادحة وأزمات كبيرة ما زلنا نجني تبعاتها المؤثرة حتى اليوم.  وللأسف الشديد لم تشرع بورصة "وول ستريت" في هندرة القروض الميسرة وإعادة تخطيط عملية شراء أو امتلاك الضمانات إلا بعد وقوع الكارثة.  فبعد نشوب الأزمة فقط بدأت صناديق التمويل تجمع المليارات من الهيئات وكبار رجال الأعمال وأساطين المال الذين لم يتأثروا بالصدمة المالية، لدعم وشراء القروض والضمانات المتداعية والأملاك المتدنية الأسعار بهدف هندرة السوق وإعادة رفع قيمتها.
 
في أوقات الأزمات وفي كل الأوقات يمكن للهندرة أن تقدم حلولاً للأفراد أيضًا.  فحتى لا يسقط الفرد تحت نير وربقة الديون والالتزامات، يمكنه استخدام تقنيات الهندرة ليعيد تصميم ميزانيته الخاصة بتأن وتعقل، مثل أن يعيد احتساب المصروفات بعد أن يحصل على الأرباح والإيرادات – لا قبلها – وأن يتحرى الدقة ويتصرف بحكمة في كل شيء، بحيث لا ينفق إلى حد الإسفاف والإتلاف.
 
ثورة المعلومات وهندرة المؤسسات
انطلقت الهندرة مع ارتفاع الأصوات التي تنادي بإعادة هندسة نظم العمل، لتحقيق أهداف كثيرة منها تقليص نفقات الشركات والمؤسسات إلى أدنى المستويات.  فالهندرة تعنى بتحقيق أعلى عائد ممكن على الاستثمار، بحيث تزيد الأرباح من خلال تخفيض الإنفاق.  فكلما قلت النفقات، زادت نسبة العائد حتى دون زيادة الإيرادات، الأمر الذي يُمكِّن الشركة من تحقيق ربح أعلى ومن تخفيض أسعار منتجاتها والمنافسة في أسواق جديدة لا تتمتع بقوة شرائية كبيرة.
 
ففي سبعينات القرن العشرين – مثلاً - غزت المنتجات اليابانية الأسواق الأمريكية في صناعات السيارات والإلكترونيات، ووجدت الشركات الأمريكية نفسها عاجزة عن منافسة اليابانيين الذين يطبقون أساليب إنتاج مبتكرة مثل المخزون الصفري والجودة الشاملة.  وباستخدام المقارنة المرجعية ومقارنة التميز – التي قمنا بتعريب مفاهيمها أيضًا - اكتشفت شركات السيارات الأمريكية أن نفقاتها تزيد عن نفقات الشركات اليابانية المنافسة بواقع ألف دولار لكل سيارة.  وهنا بدأت تطبق أساليب الإدارة اليابانية لكي تخفض نفقاتها بمعدلات هائلة.
 
الهندرة والإلكتروقراطية
فالهندرة إذن هي:  "التغيير الجذري في طريقة أداء العمل، بحيث يتم تصميم العمليات الإدارية من الصفر ودون النظر للنظام المعمول به سابقًا، وبشرط أن يكون نظام المعلومات جزءًا من التنظيم الجديد، وليس مجرد وسيلة مساعدة في العمل.  وهي تتضمن إلغاء العمل بالوظائف الإدارية (Functions) والتحول إلى العمليات الإدارية (Processes)."
 
ومع دخول الحكومة الإلكترونية حيز التنفيذ والتحول من البيروقراطية إلى الإلكتروقراطية (Electrocracy) وهو المفهوم الذي قمت بتركيبه وصياغته أيضًا للتعبير عن البيروقراطية الإلكترونية، كان جديرًا بالحكومات وكل الإدارات العامة أن توظف الهندرة في تقليص مستوياتها الإدارية وتخفيف أعبائها في التمويل والرعاية وتقديم الخدمات، وإعادة توجيه مواردها للتنمية البشرية ولتغيير مسارات الاستثمار البشري بدلاً من مساعدة الشركات العملاقة والبنوك الخاسرة.
 
لقد عمدت الحكومات في كل الدول إلى مساعدة شركاتها الفاشلة ومشروعاتها المتعثرة.  كانت أكثر الشركات فشلاً هي البنوك والشركات العقارية والشركات العابرة للقارات.  وبدلاً من أن تتحلى الحكومات بالشجاعة وتترك الشركات الفاشلة تموت، لجأت إلى تغطيتها وإعادة تمويلها وحقنها بالمساعدات العاجلة والقروض الطارئة التي تشبه المسكنات.  ونظرًا لانتشار الإدارة الإلكترونية، فقد كان الأفضل – من وجهة نظر الهندرة – فك تلك المؤسسات وإعادة تركيبها على أسس جديدة.
 
قتل الشركات الفاشلة أو فكها وإعادة تركيبها هي فلسفة يابانية بامتياز.  هذا ما فعله "كارلوس غصن" في شركة "نيسان" فأنقذها من الإفلاس.  وهذا ما ستفعله المؤسسات اليابانية بعد زلزال وتسونامي اليابان.  فهذه الموجات ليست مجرد عوامل طبيعية خارجية، بل هي محركات وقوى تغيير تفضي إلى إعادة تصميم الصناعات القديمة وهندسة ثقافة تنظيمية وأساليب عمل جديدة، تبدأ بورقة بيضاء وبفكر إبداعي جديد ومستقبلي ومستقل.
 
في اليابان يطلقون مصطلح "كايزين" على التغيير والتحسين المستمر.  وفي أمريكا يسمون هندرة الحكومة "إعادة اختراع" وفي بريطانيا أطلق "جيف مولجان" فكرته حول التحريك وإعادة البناء من خلال تحويل الاستراتيجية الحكومية إلى فن، بهدف وضع السلطة والمعرفة معًا في خدمة الصالح العام، وهو صاحب كتاب مهم سأتولى ترجمته ونشره قريبًا.  أما في مجال الأعمال فإن "الهندرة" هي أقوى مداخل التغيير الجذري والسريع والعميق.  ولهذا فقد نبعت فكرة إعادة إصدار هذا الكتاب مما يشهده العالم العربي من تحولات جذرية على مختلف الأصعدة القيادية والسياسية والإدارية، بحيث يجد فيه الاستراتيجيون ومتخذو القرار وقادة التغيير مرجعًا حافلاً بالأساليب والخطوات والأدوات والمنهجيات.
 
نسيم الصمادي

بقلم : نسيم الصمادي