يموج عالمُنا المعاصر بالمتغيِّرات المتلاحقة والتشابكات المعقدة بين الظواهر والأحداث المختلفة، ما يزيد الحاجة يوماً بعد يوم إلى استشراف المستقبل في جميع الميادين الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والعلوم والتكنولوجيا، فضلاً عن تفاقم حجم المعارف المُتاحة، وسهولة مشاركتها واستثمارها، وفي حين يتضاعف حجم المعرفة حالياً كل 18 شهراً، تتضاعف أيضاً كفاءة التكنولوجيا كل سنتين تقريباً، حيث تضاعفت سرعة معالجات الكمبيوتر نحو ستة وستين ألف مرة خلال ثلاثة عقود فقط، ويعدُّ هذا التضاعف المُذهِل أحد أسرار التغيير السريع في حياتنا.
يَحدث أحياناً بعض الخلط بين مفهومي التخطيط الاستراتيجي واستشراف المستقبل، ولا بُدَّ هنا أن نُؤَكِّد أنهما لا يتعارضان وإنما يُكَمِّل أحدهما الآخر، بمعنى أنَّ استشراف المستقبل يُزَوِّد الحكومات والمؤسسات بمعلومات وإفادات رافدة Feedward لتشكيل المستقبل واتخاذ القرارات المناسبة، وتَغْيير الاستراتيجيات الحالية في ظل مُخرَجات عملية استشرافية جديدة.
يعدُّ الوعي بالمستقبل، واستشراف آفاقه، وفهم تحدياته، من المقومات الرئيسة في نجاح المجتمعات بشكل عام والمؤسسات بشكل خاص، فلا يمكن استدامة النجاح من دون امتلاك رؤية واضحة لمعالم المستقبل، وبخاصة في عصرنا الحالي.
استشراف المستقبل ليس تنبؤاً، والمستقبل ليس قدراً غامضاً، مثل إعصار أو منخفض جوي، ولكنه قدر نصنعه أو نشارك في صناعته، فالتفكير هو أساس صنع المستقبل وصياغته على النحو الذي نطمح إليه ونبتغيه، فأنت ما تريد أن تكون، وإذا فشلت التوقعات، فذلك يعني فشلاً في الرؤية والتخطيط لا في التفكير المستقبلي كمبدأ أو منهج أو فكرة أو عملية أساسية يجب إدخالها في العمليات والممارسات الإدارية إلى جانب التخطيط الاستراتيجي.
استشراف المستقبل مهارة استراتيجية وعملية تنطوي على استقراء التوجهات العامة في حياة البشر، وهي تُؤثِّر بطريقة إيجابية في مسارات الأفراد والمجتمعات، ولا يَهْدف الاستشراف إلى التَكَهُّن بتفاصيل أحداث المستقبل للأفراد أو للمجتمع أو للإنسانية جمعاء، إنما يهدف إلى رسم نَهْجٍ استباقي واعتماد سيناريوهات يُمكن تحويلها إلى واقع ملموس يرتقي بالعمل المؤسسي على أُسُسٍ ومعايير مبتكرة، لتحقيق أعلى معدلات رضا المتعاملين وسعادة الناس، وتحديد الاتجاهات بعيدة المدى، وتخيُّل مستقبل مرغوب فيه، واقتراح استراتيجيات تحقِّق الأهداف، ووضع التدابير الواجب اتخاذها في الاعتبار، وكذلك تصحيح الانحرافات إن حدثت.
الاستشراف وسيلة لتشكيل المستقبل، وأسلوب منهجي وتشاركي لتطوير استراتيجيات وسياسات فعَّالة من أجل المستقبل واتِّخاذ القرارات ووضعها موضع التنفيذ من خلال محاولات منهجية للنظر في مستقبل العلوم والتكنولوجيا والمجتمع والاقتصاد وتفاعلاتها، في سبيل تعزيز المنفعة الاجتماعية والاقتصادية والبيئية.
استشراف المستقبل واستباق المتغيرات والتأهب للاحتمالات وما تنطوي عليه من تطوُّرات، ليست رفاهيةً أو أعمالاً تكميلية للمؤسسات، بل هي من صميم الأساسيات، لأن المؤسسات غير المستعدة للمستقبل لن تكون ريادية وستبقى تعاني، أو تخرج من السوق تماماً.