إذا ما بدا لك السؤال وعنوان المقال غريبًا أو ساذجًا، فأنت بحاجة
لأن تقرأه مرتين أو أكثر. ففي الماضي كنا ندرس في الجامعة لنحصل على وظيفة؛ بل
لقد تم تعييننا في وظائفنا في القرن الماضي رغمًا عنا! فقد كان التوظيف مثل
الخدمة العسكرية؛ إجباريًا لا اختياريًا. أما اليوم فإن الشهادة الجامعية لا
تضمن لمعظم الخريجين سوى البطالة. وإذا ما أمنت لك وظيفة، فلن تكون في الغالب
سوى أكل عيش، هذا بعد مائة ألف واسطة، ومليون رجاء.
من المفارقات التي اكتشفناها متأخرين بعدما وُظفنا (لأن الموظف دائما نائب فاعل)،
هي أننا لسنا بحاجة إلى الوظائف. فاستقلنا من وظائفنا وبدأنا نعيد اكتشاف
أنفسنا ونبحث عن ذواتنا؛ فمنا من وجد نفسه، ومنا من ضل الطريق في متاهات الحياة.
فقد تبين من دراسة أجرتها "جمعية علم النفس الإيجابي" أن أكثر ما نندم عليه في
حياتنا هو المسار التعليمي الخاطئ، يليه المسار الوظيفي الخاطئ، يليهما في
إثارة الندم والإحساس بالعدم؛ الفشل في الحب والزواج! وهذا يعني أن دخول
الجامعة – بحد ذاته – لن يكون قرارًا صائبًا إلا إذا تأكدنا من اختيار التخصص
المناسب! وحتى العمل بعد الجامعة لا يكون قرارًا صحيحًا إلا إذا اخترنا الوظيفة
المناسبة! فخياراتنا الدراسية والمهنية والاجتماعية لن تكون مريحة، إلا إذا
كانت واعية وحرة وصحيحة!
قيمة الإنسان الحقيقية لا تنبع من شهاداته أو سياراته أو عقاراته أو استثماراته
أو انتماءاته. عندما ندرك أن أكثر ثلاثة غيروا وأثروا في تاريخ العالم الحديث
هم: "بل جيتس – ميكروسوفت" و"ستيف جوبز – آبل" و"مارك زكربرج – فيسبوك" الذين
دخلوا أرقى الجامعات العالمية وتركوها لأنها لم تستوعبهم ولم يفهموها، لا بد أن
نعيد النظر في مسلماتنا ونظراتنا التقليدية للجامعات ودورها في النجاح والسعادة
في العمل والحياة .
لماذا نذهب إلى الجامعة لنتعلم التاريخ وتواريخ العالم كلها مزيفة؟ ولماذا
نتعلم الجغرافيا وهي تتغير كل يوم؟ ولماذا نتعلم السياسة التي صارت نجاسة
ونخاسة؟ ولماذا نتعلم الاقتصاد الذي أغرق العالم في الفساد؟ ولماذا نتعلم
القانون في عالم لا يعرف العدالة؟ وماذا يبقى: التربية والتعليم؟ أليست مدارس
اليوم هي نتاج علوم التربية في الأمس؟ والإدارة؟ وهذه تحتاج إلى شخصيات قوية
لأن معظم خريجي الإدارة ينجحون في دراستها ويفشلون في تطبيقها! فما الذي يبقى
غير العلوم والآداب واللغات والفنون؟ هذه، في الحقيقة، مجالات تستحق الدراسة
والاستثمار لو تعلمناها ومارسناها على أسس أخلاقية وبضمائر حية وإنسانية! لكن
الجامعات العريقة التي تعلم الأخلاق كفلسفة وعلم، فشلت أيضًا في تطبيقها!
وتلقى الآداب والفنون أكبر إهمال يمكن تخيله في تاريخ المعرفة البشرية.
فالعالم ينحو باتجاه "قلة الأدب" يومًا بعد يوم، في حين تحولت الفنون إلى مجون،
والمقاهي إلى ملاهي.
من المفروض عندما تذهب إلى الجامعة أن تتعلم كيف تسأل ولماذا تتساءل! أما في
الجامعات العربية، ولا سيما الأردنية، فقد تتعلم كيف تقتل ولماذا عليك أن تقاتل!
فبدلاً من أن نبدأ الصداقات ونوطد العلاقات ونحقق الأمنيات، نطلق الصرخات
والطلقات ونمشي في الجنازات.
لقد حادت الجامعات عن رسالتها وضلت سبلها. كان المفروض عندما نتعلم النظرية أن
نتقن تطبيقاتها العملية. لكن الجامعات والأسواق العالمية تسير في خطين
متوازيين لا يلتقيان مطلقًا. ففي دراسة لشركة "ماكنزي" الاستشارية تبين أن 30%
من الشركات تبحث عن موظفين مناسبين ولا تجدهم. وفي حين يقبع 75 مليون خريج في
دائرة العطالة، تبحث أكثر من 55% من المؤسسات حول العالم عن موظفين مناسبين ولا
تجدهم. فهل صارت الدراسة الجامعية شرًا لا بد منه؟ فهي مكلفة وصعبة وطويلة،
وقليلاً ما تكون مفيدة وتؤول إلى نهاية سعيدة!
إذا كنت في طريقك إلى الجامعة اليوم أو غدًا؛ فسأقدم لك نصيحة تاريخية: لا تدخل
الجامعة إلا بشرطين:
- أن يُسمح لك باختيار تخصصك بحرية بغض النظر عن مجموعك وما يطلبه أمك وأبوك
وينصح به أقرانك ومدرسوك!
- ألا تذهب إلى الجامعة قبل أن تدخل الحياة العملية وتمارس عملاً أو اثنين، في
مدة لا تزيد عن 5 سنوات ولا تقل عن سنتين، على أن تسأل الموظفين والخريجين
والمديرين والناجحين والفاشلين؛ ماذا عليك أن تدرس؟ ولماذا؟ وأين؟ ومتى؟
في ظل هذه الشروط فقط، يمكنك اختيار مجالك بوعي وإدراك وحماس! ويمكنك فعلاً أن
تحقق ذاتك، وتعبر عن قدراتك، دون أن يحكم عليك – فقط – بمعدلك ودرجاتك! إذا
أردت أن تعرف حقًا ماذا جرى في العالم قبل أن تولد، وماذا قد يحدث فيه وله بعد
أن تموت، تمسك بحقك بأن تدرس ما تريد، وتعمل ما تجيد، لكي تبدع وتعطي وتفيد
وتستفيد.